تحت جلدها
كانت تنتظرني. جلستْ على حافة سريرها ممسكة الفراش بكفّيها كأنها تتأهّب للنهوض. أرخت رأسها قليلاً وتمتمت ما فهمتُ أنّه عتاب. عاتبتني على تأخّري. قالت إنّها لا تعرف أن تقاوم الملل وإنّه يحقّ لامرأة مثلها في الثمانين بعض الغنج الطفولي.
- أتنتظرينني أم تنتظرين صديقتك الشاعرة؟
لم تردّ. أنا أيضاً اخترت الصمت. قررت أن أنتظر كلامها قبل أن نغرق في القراءة عن الشاعرة الثائرة التي اكتشفناها معاً في غرفة ابنها. منذ ذلك اليوم تغيّرت العلاقة بيننا. أصبحنا صديقتين تتشاركان سرًّا جميلاً. وأصبح دوري أوسع وأعمق من دور صبية تقرأ لامرأة مسنّة.
تحرّكتُ في الغرفة، أخرجت الأوراق من حقيبتي ورتّبتها في انتظار أن توجّه إليّ الكلام. غاب اليأس عن عينيها، وقد رأيت فيهما ما ينسجم مع ذكائهما، حماسة انتظار ما سيأتي حتماً وسيحمل معه التغيير.
طلبتْ ممّن تساعد في الأعمال المنزلية أن تحضّر لنا الشاي. هكذا تخلّصتْ من غرابة الصمت بيننا. نعيد معاً الحياة لامرأة ولدت منذ مئة وتسعين عاماً، امرأة تشبه كلّ امرأة حرّة.
التقيناها منذ أيام قليلة في كتاب أكاديمي منشور في الولايات المتحدة. وتحوّلت لقاءاتنا إلى جلسات بحث عن الشاعرة التي كانت ومازالت كلماتُها المكتوبة صوتَها.
كتبت الشاعرة صوتها منذ مئتي عام، فلم تتوقّف عن العيش. الكلمات المكتوبة صوتها الذي لا يزال حيّاً وينتظر أن يرى أهلها الجدد ما رأته هي قبلهم، منذ مئتي عام أو أكثر. لكنّهم لا يرون ولن يروا.
كانت الشرايين الزرقاء تحت جلدها تتشبّث بالحياة حين كانت تنتظر التغيير أو الخلاص أو المخلّص أو المخلّصة. وحين توقّفت عن الانتظار اختفى اللون في عروقها واستسلمت لجلّاديها. عرفت أنّ الانتظار يساوي حياتها. وأنا أصبحتُ أراها في المنام، ولا أسمع الصوت.
يمكنني فقط أن أقرأ كلماتها، أفهم وأنا نائمة، أنها تلقي قصيدة ولا أقدر على سماعها أو فهم ما تقوله. أفهم أنّها تلقي قصيدة وأنّ الخواتم التي ترتديها أصابعها، تلقي التحية. هي أيضاً كانت موعودة بالتغيير.
كانت توقّعاتها هي أيضاً أكبر من الحقيقة. هي أيضاً أصرّت على أن عالمها يجب أن يتغيّر ثم أدركت أنّه لا يمكن أن يتغيّر، فصمتتْ كلماتها المكتوبة.
أقرأ تلك الكلمات، أقرؤها لي ولصديقتي ونتعجّب من رؤى شاعرتنا. أصبح انتظار التغيير الآن أكثر مرارة لأننا لمسنا طرف الوهم، وهم التغيير قبل أن نصدّق أنّه وهم.
أقرأ كلمات الشاعرة المكتوبة منذ قرنين وأبتسم لي ولصديقتي الثمانينية ولآمال بالحرية لم تتغيّر وما زالت آمالاً، ولرؤى الماضي البعيد التي كانت أكثر جرأة من رؤى اليوم. كيف ما زلنا، نحن نساء المنطقة «ذات الخصوصية والحساسية» ننتظر أن يأتي الخلاص؟
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024