تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الكلمات المنقِذة

كلّما صعُب تنفّسها زارت الكتب التي اكتشفتها في بيت خالها. تؤمن بهذه الكتب إيمانها بأنّ العالم سيتغيّر، عالم امرأة قفزت من القرن التاسع عشر إلى خارج التاريخ.
امرأة جميلة وثرية، لكنها لم تهتمّ بجمالها ولا بثرائها، بل اعتمدت على قوة عزيمتها وعلى رؤى سكنتها، ووعدتها بواقع أكثر عدلاً.
تزوّجت في الثالثة عشرة من ابن عمّها البغيض. لم تكن تضحّي بنفسها. كانت موافقتها جزءاً من خطة كبرى، وقد نفّذتها. ولم يكن صعباً بالنسبة إليها أن تُخرج زوجها من حياتها. غادرت منزلها الزوجي مع أولادها الثلاثة، الولدين والطفلة، ولم تعد إليه.
هدفت خطّتها ببساطة إلى تغيير العالم، عالم النساء من حولها. أحبّت العالم كلّه، وبحثت بثقة، مسلّحة بعلمها وذكائها، عن إنقاذ العالم بالكلمات أولاً. لكن، كيف للكلمات أن تكون منقذة؟ لم تنقذ الكلمات العالم، لكنها قدّمت إلى الشاعرة الخلود.
أستمع إلى قصائدها المؤداة بلغة لا أفهمها، فأسلّم على الصوت وأهزّ له رأسي امتناناً. تطربني الكلمات التي لا أدرك معناها، الكلمات المنقِذة.

السيّدة المجهولة
أقعدتها الأنغام. جلست في كرسيّ في المدخل، وكانت مستعدّة للنوم. ارتاحت روحها من صخب الخارج، فأسندت رأسها إلى الحائط واستسلمت لمتعة المراقبة. عينا المسؤولة عن المواعيد في معهد الموسيقى الذي اكتشفته السيّدة المجهولة مصادفةً، رائعتان وردفاها ضخمان.
تشبه المسؤولةُ الممثلةَ الإيطالية صوفيا لورين، لكن ردفيها مخيفان، يرتجّان وهي تمشي ببطء على أنغام البيانو. قبل أن تجلس المسؤولة، تُلبس الكرسيَّ معطفَها الأسود وتلفّه بوشاحها الملوّن.
تتراشق بالأسماء مع إحدى زميلاتها قبل أن تستسلم مجدداً لعلاج الموسيقى. تصرّ دوماً على الكلام مع زميلتها بالفرنسية. وبين كلماتهما تصدح نغمات الساكسوفون.


جلست السيّدة المجهولة في المدخل. العالم أجمل هنا حيث تعيش الموسيقى، وحيث يدخل الأطفال والكبار حاملين آلات موسيقية في بيوت جلدية.
كلٌّ يدخل معانقاً آلته، كأنّه يرتديها، كأنّه جزء منها. والأصوات هنا، أصوات البشر خفيضة، إلا صوت الموسيقى يوقظ ما بقي من جمال في البناية والشارع والمنطقة والمدينة. طال جلوس السيّدة المجهولة في المدخل.
لا أحد يراها أو يكلّمها. كادت تطير من فرط إحساسها بالخفّة وبلطافة الأجواء. أين ذهبت الفتاة التي تحمل جديلتها على كتفها وتمشي على رؤوس أصابع قدميْها وتتكلّم بالفرنسية؟ كانت السيّدة المجهولة قد تبعتها.
كانت في المقهى على رصيف البناية حيث رأتهم جميعاً يدخلون، الفتاة وجديلتها، شبيهة صوفيا لورين، الشباب وحقائبهم الموسيقية. تبعتهم إلى الطبقة الرابعة، ودخلت الشقة وغرفها التي تحتضن الآلات الموسيقية.
لم تود المغادرة، ما زالت في المدخل، تراقب الوجوه والأجسام التي شفتها الموسيقى من أنواع التلوّث في الخارج. كلّ ما تريده الآن أن تمضي هنا بعض الوقت. لكن «صوفيا لورين» اقتربت منها وسألتها: كيف يمكن أن أساعدك؟ ولم يكن صوتها سحرياً مثلما كان منذ لحظات.
كان صوتاً يشبه الأصوات في العالم الخارجي. لم تجبها. لم تقل لها إنها تبحث فعلاً عن مساعدة. نغمة السؤال لم تعجبها. ليست موسيقية بل تخفي اتهاماً وعدائية. فكّرت في الإجابة، لكنّّها لم تجب، بل خرجت إلى عتمة المصعد المخيفة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077