تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

قراءة الحياة

السجّادة التي تغطّي أرض الغرفة، هديةٌ من زوجها الذي توفي عام 1997. عرفتُ تاريخ موته لأنني سألتها عن السجّادة.
وما عرفت إذا كان الحزن في عينيها ضعفاً أم قوة. هوسي بألا أخطئ في فهمها هوسٌ خاطئٌ. لا يمكن أن أتوقّع ردّة فعلها.
عدّدتْ تواريخَ طالبةً مني أن أكتبها، فتعرّفتُ إلى زوجها الراحل في تواريخ متفرّقة لحياة واحدة وتاريخ وحيد لموت واحد.

«هنا الحياة دوماً مقطوعة بفعل فاعل». هذا ما سمعتُها تقوله ولم أسألها كيف مات زوجها. كان علينا أن نعود إلى سرّنا، إلى الكتاب الذي وجدناه في مكتبة ابنها وسكننا كوسواس قبيح أحياناً أو كرؤيا مخلّصة أحياناً أخرى.

صعقها مشهد الوشاح الأبيض الذي التفّ حول رقبة الشاعرة الثائرة. قتل الوشاح الحرير الشاعرة وخنق ثورتها. المشهد مرسوم في الكتاب، وقد أصبح مرسوماً في ذاكرتينا. وصفتُه لصديقتي العجوز قبل أن تراه.
ثم عانقتْ كفّي رقبتي، وأنا أستمع إلى أنفاسها. كيف لحياة طويلة أن تغيبَ عنها الأسرار؟

تقول إن لا معنى للأسرار في حياة امرأة في الثمانين. وما الذي يجعل امرأة في الثمانين مفتونة بحياة شاعرة ثائرة قُتلت في عزّ شبابها؟
تلمس الكتاب بانبهار، مثلما تلمس سجّادة زوجها حين تعيد رسم الخطوط الرفيعة بطرف إصبعها.
تلمس الكتاب بأطراف أصابعها أيضاً وتشمّه كأنّها تبحث في رائحته عن رائحة الشاعرة التي ماتت شابة. فتنتْها ثورة الشاعرة في أواخر القرن التاسع عشر، هي الثائرة على أعوامها وعلى ما يعتبره الآخرون «عجزها».
طالما ناصرت المرأة وتمسّكت بحقوقها، بالرغم من قولها إن الرجال في حياتها لم يؤذوها. تعلّمت في البيت حتى سنّ متقدّمة لأنّ والدها أصرّ على أن تحظى ابنته بفرصة التعلّم، ثم سمح لها بأن تكمل دراستها، وكانت بين النساء الأُوَل اللواتي دخلن الجامعة في المنطقة.
اعتُبر والدها تقدّمياً منفتحاً بالنسبة إلى الجو الذي كبرت فيه. كان حساساً ذكياً، وكان أيضاً يخاف من الحياة، من المرض والموت ومن الفَقد أيضاً، فقد مَن يحبّهم.
ولم يبال بالأفكار السائدة والأحكام التي تمنع رجلاً من إظهار انفعالاته. أما زوجها، فلا يزال رغم غيابه يبني فيها فكرة عنها هي نفسها لا تعرفها، لكنّها تحسّ بها، فكرة تُخرجها من دورها اليومي الوحيد، دور امرأة في الثمانين. ما زالت مغرمة بزوجها الذي مات منذ خمسة عشر عاماً.

نعود من سردها تفاصيل من ماضيها إلى الكتاب الذي يسرد ماضياً اكتشفناه وأدهشنا. تطلب مني أن أعيد قراءة مقطع البارحة. تلمع عيناها، فأنسى سنّها وأقرأ لها مقطع البارحة وأذكّر نفسي بأهمية أن أتعلّم منها قراءة الحياة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077