تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

حديقة 'مغنوليا'

أتعجّب من السلام الذي تعيشه. تحبّ أيامها الأخيرة. منذ أعوام تعيش أيامها الأخيرة. منذ تجاوزت الثمانين تنتظر النهاية. لم تصل أيّ من قريباتها إلى العمر الذي وصلت إليه. مَن يصدّق أنها في الثامنة والثمانين؟ هي نفسها لا تصدّق.
تؤكد أنّهم أخطأوا في تسجيل تاريخ ولادتها. لكنها لا يمكن أن تكون أصغر بعشر سنوات، لا يمكن أن تكون في الثامنة والسبعين، ولن تتغيّر حقيقة أن عمرها طويل إذا اكتشفت أنها في الثالثة والثمانين الآن.
إنجاز الحياة الذي لا يد لها فيه لا يحيّرها، على الأقلّ الآن ما عاد يحيّرها.

زرتها لأقرأ لها رسالة قديمة كانت قد كتبتْها عن أيام زوجها الأخيرة. تقول إنها تلتقي زوجها في تلك الرسالة. تقول إن كلماتها المكتوبة بوجع الفراق الأخير تؤكّد ثقتها بالماضي. ما عادت قادرة على القراءة الآن. تُتعب القراءةُ عينيها، لكن ذهنَها يتوق إلى الكلمات المكتوبة. «مَن سيكتب رسالتي من بعدي؟» سألت. «لا أعرف»، أجبتُها.
لا يمكن أن أكذب عليها، أن أطمئنها وأعد نفسي لاحقاً بتغيير الخطّة. أحترمها وأخاف من زعلها.

«اليوم صحوت وأنا لا أشكو وجعاً لا أعرف تحديد مكانه في جسمي، وقدماي غير متورّمتين الآن. لا أريد أن أبقى في السرير. وأريد أزهاراً جديدة، أريد مغنوليا».
ابتسمتُ.

«أتصدّقين أنني ما زلت أحلم في نومي، وما زلت أحلم بحديقة. منظر الإسمنت يقتلني، والنوافذ والشرفات المشوّهة بلوحات زجاجية. يعلّبون الشرفات، يسجنون حرية طاقات الحرية».
أبتسم مرة أخرى.

أبتسم لأناقتها. لم يحدث أن رأيتها في قميص نوم قديم أو غير راقي الأسلوب. أعرف أنها تختار كلّ صباح ما يمكن أن ترتديه، وقد لا ترتدي ثياب الخروج، لكنها تجهّزها وتخطّط بعناية لمظهرها. أعرف أيضاً أنّها تعشق الجواهر والأكسسوارات الفضية.

أستغرب أن تقدر على الدهشة امرأة في عمرها. أقرأ لها الصحف وأختار من مكتبة ابنها كتب تاريخ. أحياناً ترجوني أن أتناول معها طعام الغداء في الثانية عشرة والنصف. تنهي وجبتها سريعاً لأجل الحلوى، الأرز بالحليب أو اللبن بالفواكه.

أغار من حبّها الحياة، من أقراط الأذنين الجاهزة دوماً على الطاولة إلى جانب سريرها بالقرب من علبة سمّاعتها، من شعرها القصير كشعر صبي في الثامنة، من سمرتها التي لا تزال جذابة.
لا تستطيع في أحيان كثيرة أن تمشي من دون مساعدة. ليس ثمة حديقة نخرج إليها، لكننا في الشرفة سنصمّم حديقتنا. خلال جلستنا، تشكرني مرة واحدة قبل ثوانٍ من وداعي. تعتبر أنها تفيدني بدورها، تقدّم لي ثرثراتها وقصصها الممتعة كتلك التي تصرّ فيها على أنها ماتت وعادت من الموت.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077