تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

عينها اليسرى

تعترف بأنها مهووسة بالكاتبة التي تعيش في آخر العالم. رأتْها البارحة في فيديو قصير تتحدّث عن طفولتها. لم تكن في الفيديو جميلةً مثلما طالما تخيّلتْها. لم يعجبها شكل القلب على جبينها. خط الشعر يرتسم قلباً فوق حاجبيها. وينقصها توهّجها الماضي، والضوء في نظرتها. كيف خفتت نظرتها؟

حدّقتْ إليها وهي تحكي، ببراعة يصعب نقلها، عن أحداث ننتظر أن نعيشها، وننظّمها في الخيال، ونرى أنفسنا في قلبها ثم لا تحدث. هي أحلام قريبة جداً، أحلام في متناول اليد، لكنها تبقى أحلاماً.

قررت أن الكاتبة خسرت بعض الكيلوغرامات. فقد تقلّص حجم ردفيها، وصارت ابتسامتها أنعم. لكن البريق في عينيها اختفى.

تغار من كل ما تقوله الكاتبة، من كلّ ما يمكن أن تقوله، ومن كل ما لم تقله بعد. تغار من صوتها، من عينيها الذابلتين رغم غياب بريقهما، وانحناءة رقبتها حين تحكي قصة طويلة. وتعدّ كلمات الكاتبة، يعذّبها العدّ، لكنّها تعدّ الكلمات وتخفي غيظها. ثم تكتب الكلمات وتحفظها.

تلزمها صناديق كثيرة لتختبىء فيها، وأخرى لتضع فيها الطعام والجرائد. جدران الكرتون تلائمها. لو دقّ الجرس الآن لن تفتح لأحد. لن يطلبها أحد للزواج الآن، وإذا طلب يدها أحد سترفضه مثلما رفضت غيره أيام صباها الأول. هي الآن تعيش أيام صباها الثاني.

ليس سهلاً أن تغسل وجهها في البرد. تفكّر في كل حركة من حركاتها، هي الآن في حالة حرب مع الخارج. وهي حرب تخاف منها بالرغم من استعدادها لها. وأكثر ما تخافه الأيام المقبلة.

«لا تريد أن يكلّمها أحد. فقدت الثقة بالكلمات التي لا تؤثر ولا تسهم في الدفاع عن المظلومين ولا في استعادة تاريخ مخجل في معظمه أو حاضر يُسرق. لا تؤدي الكلمات دورها، فرغت الكلمات من المعاني ورمت أسلحتها.
الكلمات نفسها ليست أسلحة، هي هياكل معانٍ فقدت معانيها». تقول ما تقوله وتصمت، ثم تشغّل آلة التسجيل لتستمع إلى صوتها، إلى ما قالته للتو.
تشغل الراديو أيضاً، وتختار الموجات التي تبثّ برامج حوارية، تستمع باهتمام إلى الأسئلة والأجوبة، أسئلة تُطرح على طبيبة متخصّصة في أمراض الجهاز الهضمي. تجيب الطبيبة عن الأسئلة بحماسة في أحيان وبحذر في أحيان أخرى.

ترافقها أصوات مجهولين في شقتها. يجب أن تستمع إلى أصوات، إلى الأصوات فقط من دون أن تحتكّ حواسها الأخرى بالأجسام وثقل حضورها. فالصمت لا يُحتمل في بيتها الجديد، صندوق الكرتون حيث الحرارة زائفة والرائحة مزعجة.

فجأة لم تعد تحبّ العالم، العالم كلّه. هذه الحيرة وهذا الضياع في فهم ما يفترض أنّها حقائق، يوجعانها كل لحظة. المظلوم الذي طالب بحقّه وكاد أن ينتزعه، بقي مظلوماً. بين الظلام والظلم حرف يتكئ عليه مجرمون في بذلات و«وضعيات» كاريكاتورية، تعرفهم واحداً واحداً.
كانت كراهيتهم واضحة في قلبها، والآن ما عادت تفهم. ما عادت ترنّ ثقتها بكلمات تنطقها. لذا بعد كل جملة أصبحت تضيف نغمة علامة استفهام.

العالم أخرجها منه إلى داخل مغلق. ليست بين قتلى الثورات الجديدة، لكنها ليست أيضاً بين أحياء العالم الذي يلفظها فقط لأنها لا تعرف أن تغمض عينها اليسرى إغماضة كاملة. من عينها اليسرى يتسلّل سؤال الظلم ويبقى هناك، في عينها.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077