تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

لمحات

تلفزيون
نبتت في سماء الغرفة العجيبة صناديق ملوّنة تسمّى أضواء، لكنها لا تضيء الغرفة-الاستديو. الغرفة تحت الأرض، أرض مدخل البناية العريقة، ننزل إليها بواسطة مصعد (أو مُنزِل) عريق بدوره.
نجد أننا في قلب جدار متآكل، أو كأنّنا في كهف أشرفت على تأثيثه مخيّلة فنان سوريالي، إلى جانب باب المصعد المخيف، مقعد بثلاثة كراس اقتُلع من سيارة وأُلصق بالجدار ليستقبل الضيوف قبل دخولهم الغرفة الاستديو.
وعلى جدار آخر التصقت علبة من حديد ملوّنة بالأبيض ومزّينة بعبارة «خطر الموت» كُتبت بالفرنسية. أليس خطر الموت جاثماً كل لحظة؟ لكن العبارة مقلقة كدخول هذا الكهف الذي طالما حرسته أضواء الريادة والعزّ البائد.
من نفق الانتظار ندخل الغرفة الاستديو حيث الجدران الدكناء عارية وعاتبة على من أهملها.
الجدران حزينة تحرس الزوايا ومَشاهد اللاعبين بالوقت لعبةَ التلفزيون، اللاعبون الذين يستقبلون الضيوف أمام الكاميرا لإمتاع المجهولين على الضفاف الأخرى وإفادتهم.
وحدها الكلمات الخفيّة والمصوّرة دافئة، وشابة أحياناً، كلّ ما في الكهف متهرّئ وقد فَقَد أمل إنقاذه، فلا ينتظر مَن يحييه ولا ينتظر معجزة.
هذه الغرفة الاستديو تكتشفها (تكتشفينها) في بناية تلفزيون لبنان، أول محطة تلفزيونية في لبنان بدأت البث عام 1959، وكان لها شرف الريادة في المنطقة مقدّمة أعمالاً مبدعة ومبدعين أثروا ذاكرتنا وتاريخنا الفني.
هي لمحة سريعة كي لا يحاصَر الجرح ويصبح الوجع أكثر شراسة، لمحة تُرجمت كلمات لا تؤثر وتبدو عارية من معانيها ومجنونة.

سرير من كتب
لا تعرف أن تنتظر. تكاد تجنّ في المطارات وعيادات الأطباء، كيف يُهدَر الوقت؟ وببساطة هكذا من دون أن يُستنكر الوضع أو يعوّض عن الوقت المهدور.
لا تقبل أن تختبر حالة انتظار، لكنها في حالة بحث دائمة عن بيت هو سرير من كتب وعن وسادة. تقول إنها أخطاءها الكبرى مذلّة، ولا تعترف بأخطائها تلك، فيبقى كلامها غامضاً ترسم به حدود الأسئلة، وهي حدود لا يمكن تجاوزها خوفاً من خسارة السيدة التي لا تتراجع عن مواقفها.
في اللحظة نفسها تكتشف أنها كاتبة ورسامة وممثلة ومخرجة ومدرّسة، وأنها تعيد صياغة القضايا نفسها، قضاياها وتعبّر عنها بأشكال مختلفة. وتلك القضايا ليست قضاياها تماماً، ولا علاقة لها بحياتها الشخصية، وهي متنوّعة وثقيلة من الربيع العربي إلى الاغتصاب في الكونغو.

في زيارتي الأخيرة لها سألتني: لماذا عدتُ إلى الواقع؟ الحياة مع الأسماء أجمل، أسماء أبطال الروايات.

أجمل ما فيها أنها تعرف أن تحدّد عيوبها، تشير إليها وتشرحها بوضوح. هذه الحكمة تأتي مع الأعوام الهاجمة عليها، كما تقول. الأعوام تتآكل، والزمان يتآكل والطريق لا تفسح الطريق لاختبار المراحل من دون حرقها. تقول إن العمر يحترق.
ما الذي يقوله جنونها؟ يقول إنها تعيش في الصحيفة، تفتحها على طاولة مشاريعها غير المؤجّلة وتقرأها سطراً سطراً، حرفاً حرفاً بحثاً عن قضية تتبنّاها.
قبل أن تنتهي زيارتي كانت قد غيّرت رأيها وما عاد تريد الهروب من الواقع. كنا نستمع إلى الطبيعة خلف نافذتها وهي تمطر غضباً جميلاً.

قالت لي: لن أبدأ منذ الآن انتظار النهاية، لن أهتمّ بسنّي وعدد الأعوام التي عشتها وسأعيشها، غداً سأصحو لأبدأ من جديد.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077