انتظار الجنون
ما كتبه عباس بيضون في «ألبوم الخسارة» أقوى من الشعر، أقلّ ادعاء وأقدر على الحسم. احتمال ضياع المعنى ضئيل في ما كتبه. المعنى واضح وحادّ وموجع وجميل. الشاعر كتب رواية جديدة. بالدهشة نفسها، دهشة الاستماع إليه، يمكن أن تُقرأ رواية عباس بيضون.
أتوقّف عند عبارات حادّة رغم شعريتها، واضحة رغم الضياع الذي تبحث عن التعبير عنه. «لكن شيئاً كالفجر كان موجوداً باستمرار.» جمل سردية هي قصائد واعترافات، هي شعر ورواية ومذكّرات.
لا أكتب مقالة نقدية، لا أبحث عن حبكة روائية ولا عن تسلسل زمني للأحداث، ألحق بالسرد وهو يطحن الكلمات، يفتّت معناها ويستعمله، السرد ينحت الفكرة التي لا مثيل لها، ينحتها ثم يحرّكها ويمنحها الحياة.
هي أفكار فريدة وشعرية ومنطقية، أفكار ضمن نصوص يجمعها بطل واحد يحارب بالكتابة الزمانَ. الراوي الذي أصبح في الخامسة والستين، يسرد «عالمه الذي يختفي بالتدريج».
ويسرد الروائي عباس بيضون قصائد الشاعر عباس بيضون، قصائده المبلّلة بسوائل الجسم، بالدم والدمع واللعاب، والتي تظهر فيها واضحة الصلة المباشرة بين حالة العقل والذهن والروح وحالة الجسم بعظامه و«جيلاتينها» وسوائله وإفرازاته.
يحاول الراوي أن يحتوي عالمه والوقت الذي «مرّ من دون مقاومة.» يسرد يومياته مع هرّ ابنته الذي هرم مثله، ويسرد ماضيه الشخصي والسياسي المرتبط بالأحداث في البلد، خصوصاً الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي.
من الماضي أيضاً تطلّ العلاقة بالمرأة التي تعكس فوضى حياة الراوي، تعكس فوضى مقصودة وإهمالاً شبه مدروس لأنّه ليس عفوياً تماماً، بل هو موقف من الحياة. هكذا أهمل الراوي مكتبة أبيه وهي ما تركه الأب بعد موته، فضيّعها الابن، أهمل الإرث الوحيد والأهم، الإرث الذي صنعه وأراد هو من دون أن يعترف، الانفكاك عنه.
«لو كان لأبي أن يكون شيئاً آخر لكان مجلّداً حيّاً وربما فضّل أن يكون واحداً من أجزاء تاريخ الطبري.»
الرواية مكتوبة بسهولة موجعة، يبدو واضحاً وسلساً هذا الجمع بين الإحساس بكلّ كلمة وبين رمي الكلمات في ما يشبه الإهمال، لكنّه إهمال مبدع بالفطرة.
إهمال هو هروب إلى المواجهة، مواجهة الوحدة والخوف منها، ومواجهة الشعور بالعجز أمام الوقت الذي يمرّ. كأنّ الروائي أيضاً لم يتأنّ في اختيار أسماء أبطاله، لم يهتمّ إطلاقاً بأمر كهذا.
هناك أيضاً الخوف من ضياع المعلومات والحقائق بالرغم من أن الذاكرة تسرد الماضي وتحاول أن تلتقطه.
تقرأ الرواية بالتنقّل بين طبقات مختلفة أو مستويات مختلفة، الإنساني والسياسي والفلسفي والشعري.
وتلوح في يوميات الراوي الذي يحلّل حالته في عامه الخامس والستين، و«لا يعرف كيف يكون في عمره»، تحيّة إلى الغائبين، فيعود الأموات إلى الحياة بإعادة تركيب الماضي، لكنهم يعودون غير حقيقيين، ضبابيين، يعودون أرواحاً تجب مداراتها.
هي رواية الخوف من الوحدة والخوف من الجنون بل انتظاره وتوقّع تحوّل «الجنون العادي» إلى جنون غير عادي، إلى حدّ أن الجنون أصبح صديق الراوي وانعكاساً له.
لا يمكن أن يكون مبدعاً حقيقياً مَن يحسّ بأنه اقتنص من الحياة كلّ ما يمكنه اقتناصه. يترافق الإبداع مع إحساس مستمرّ بالخسارة، حسرة على الوقت الذي مضى ويمضي، ورعب هائل من الموت.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024