مسرح
لا أعرف ما الذي ذكّرني بالطفلة التي لا تكبر. كلّ ما أحسست به البارحة، كلّ ما فعلته ذكّرني بها. اختبرت الشعور نفسه بالفزع الذي طالما سكنها، والرغبة نفسها في قضم الحياة، والهدوء الذي لا يعد بالخير.
رأيت الطفلة في سيارة كحلية، كانت العتمة كحلية أيضاً، وكانت الأرض كحلية. رأيت الطفلة تناقش حارس الموقف. ليست الطفلةُ طفلةً تماماً.
هي في الثامنة عشرة ربما. الحارس يطلب منها موعداً، "إذا قبلتِ أن تشربي معي القهوة، يمكنك أن تركني سيارتك هنا."
سارعتْ إلى ركن السيارة في الموقف قبل أن يغيّر الحارس رأيه وكي لا تتأخر على الحصة الثانية في المسرح. لم تتأخر.
في العتمة الكحلية، في قلب العتمة خشبة عريضة، خشبة مسرح قديم جديد. وقفت الطفلة عليها ولم تقل شيئاً، حاولت أن تنطق بما أملاه عليها المخرج، لكنها لم تستطع الكلام.
تجمّدت مكانها. وكانت مصرّة على «اقتحام» المسرح. قرّرت أن الحياة التي تحلم بها هناك على الخشبة، هناك تحديداً حيث الستائر المخملية الحمراء تتلاءم مع المقاعد المخملية الحمراء. المسرح صغير، المسرح دنياها.
كانت وحيدة، لم يقدّم لها أحد نصيحة، لم يرسم لها أحد حدود طريقها. كانت وحيدة، خلعت اللغة الفرنسية، ودخلت وحدها لغة جديدة. تمسّكت بالعربية، وكان الشعر دوماً طريقها إلى وحدة أوسع. دخلت المسرح.
عبرت أخيراً إلى عالم مشوّق حلمت به. لكن الخجل لم يسمح لها بالبقاء هناك. حقّقت الرؤيا، وقفت على الخشبة خلف ذراع الرجل الوسيم الذي حكت عنه أمّها، ثم في المكتبة قرأت عنه، قبل الإنترنت، قرأت عنه في الكتب.
والتقته مجدداً في المسرح الصغير الذي ضاع الآن بين مشاهد المدينة الجديدة، ضاق وضاع بين الأبراج وحدائق الإسمنت وغابات أصوات البناء، بناء هو هدم، هدم الذاكرة والتاريخ وروح الحاضر.
هذا المسرح الذي افتتح قبل الحرب، نهض بالحياة في بيروت بعد انتهاء الحرب، أضاء عتمة الصبية الكحلية قبل أن تضيع في قصة حب تافهة. احتضن أجمل مواعيدها. كبرت الطفلة وما زالت طفلة، متردّدة تحلم في لحظة واحدة بالتخلّي عن القيادة والسيارة والرحلة.
أحاول أن ألمس الطفلة، أن أمدّ يدي إليها. لا أدري لمَ كلّما بحثت عنها وجدتها في العتمة، عتمة كحلية تحديداً، تمشي وحدها في عين المريسة، تكلّم نفسها وتحلم بطالب الهندسة الذي حاول أن يكشف لها أسراره ولم تفهم. لم تثق بأنها يمكن أن تثير اهتمامه.
كانت مشغولة بوحدتها، تلاعب وحدتها بادعاء الحوار مع طالب الهندسة في الرحلة ما بين مسرح بيروت وباب الجامعة الرئيسي. في تلك الأيام كان المسرح بطلاً وكانت بيروت تنتقم من الحرب، كانت بيروت تمثّل، وكانت الطفلة ابنة الحرب تمثّل أيضاً.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024