تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

بصراحة

راقبت الوقت. تبعت الوقت ونظرت إليه نظرة حاقدة. تبعته من مكاني. لم أتحرّك وهو لم يتوقّف. هذا بصراحة كلّ ما يمكنني فعله. تذرّعت بالوقت لأهرب من الصورة. يجب أن أعترف بأنني أهرب منها.

منذ كنت طفلة أذكر ذلك المشهد في الفيلم الهوليوودي. هو مشهد البطل بعد موته، البطل بعد موته يراقب جسمه. لا أتذكّر أصواتاً للمشهد المتربّص بي. أرى أبطال الصور الحقيقية في أفلام الواقع العربي، أراهم يصرخون ولا أسمع الصراخ.
كأننا كلّنا تحت الماء. رأيتهم يصرخون، ولم أسمع الصراخ. أما نحن الأحياء على الضفة الأخرى، فما زلنا نتأكد من حياتنا، أفعلاً لم نمت بعد؟ نكتم راحة المتفرّجين على موت لم يطلهم بعد ونتفرّج أو نحمي عيوننا بأكفّنا.
نبكي من خلف الكومبيوتر على النيّام الجدد، ثم ينام كلّ منا مغمضاً عيناً واحدة. لا وقت الآن لإغماض العينين الاثنتين، لا يمكن الاستسلام لاحتمال الغياب في نوم أخير.

أحياناً نخجل، أحياناً في لحظات قوة تخطفنا من الخوف، نحسّ بالخجل. «ما أوقح الخجل» نقول، «وما أخطره الآن». كل شيء خطر الآن، النوم والخجل والأمل وحتى الحب خطر الآن. هل نفهم؟ هل بيننا مَن يفهم؟
لا نقول إننا تآلفنا مع الموت، لا نتآلف مع الموت بل نسلّم به. لكن يجب أن نعترف بأن موت الآخرين لم يعد يدهشنا بالدرجة نفسها، وبأننا أحياناً نتجاهل الوجع الذي تحمله الصورة. ما يوجع هو أن الصورة حقيقية، الصورة واقع لا يمكن محوه، كمثل صورة الطبيب النائم في سرير أخضر.

كأنه نائم، كأنه يرتاح من ثلاثين عاماً هي حياته التي اخترقها جهل المجرمين لمعنى الحياة. أصاب الجهل خاصرته، فتلوّنت بالأحمر ونام. لكن الجهل لا يبرّر الوحشية. فبماذا نصف هؤلاء المسؤولين عن حصاد الحيوات؟ هؤلاء لا نفهمهم.
هو فضول فقط، مجرّد فضول مؤرّق يدفعنا إلى التساؤل بسذاجة: كيف يعيش هؤلاء وكيف يتنفسون ويفكرون وينامون؟ وما نوعها تلك اليد التي تنفّذ خططهم، خطط القتل؟ تلك اليد يصعب تركيب حياة لها. يصعب منح اليد التي تنفّذ حكم الإعدام عقلاً وأفكاراً وقلباً وحياة.

خلف صورة النائم الحقيقية حقيقة أخرى. ثمة مَن ترك رسالة حمراء في خاصرة المستقبل. صاحب الرسالة من عالم آخر، وحاملها ليس من العالم نفسه، مخلوقات غريبة تتحكّم بعالمنا، نحن الذين نختبر مشاعر إنسانية مشتركة.
هذه المشاعر نفسها تدفع الأبطال بيننا إلى رفض الذل والقهر والظلم. وهؤلاء يعلنون الرفض بالمواجهة لا بالهروب ولا يهمّهم ما يقوله البعض في لحظات يأس: إنها لعبة رهيبة. لعبة تبتلع الثمن الأسمى، وتسمّى سياسة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077