تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

تمارين على الوحدة

تمرّنتُ طويلاً على الوحدة. أحببت وحدتي. تمرّنت على فكرة انفصالي عن زوجي حتى عشقتها. وكنت مصرّة على الطلاق.
أمي قالت إن طلاقي أكّد لها أن أبي رحل في الوقت المناسب. كيف استطاعت أن تقول ما قالته؟ «ارتاح من وجع الراس» قالت. وأنا أؤجّل صلحي مع أمي. لا بأس إذا خاصمني العالم كلّه الآن.
لم يعد يهمّني ما يقوله الآخرون عني الآن. دفعت غالياً ثمن خشيتي ما سيقوله الآخرون. لكنني تحرّرت. لا أعرف من أين أتتني تلك القوة. ربما منذ قرأت سيرة الشاعر المشهور الذي يشبه علي. تغيّرتُ منذ بدأت قراءة السير. مات الشاعر.
وأنا في سيرته أعيش معه أيامه الأخيرة. أنهكه المرض وما زال يكتب ويسافر ويحاضر ويقرأ شعره. سيغيب عن حياتي بعد أيام قليلة. موته الحيّ، موته القويّ الصادم جعلني أفكر في حياتي، في مَن أحببتهم من دون أن أعرف السبب، في علي الذي كان وما زال مثالي الأعلى. علي ترك كل شيء منذ البداية، وأنا تمسّكت بما لديّ لأنني كنت الابنة العاقلة.
هو هرب وأنا لم أهرب. كنت دوماً المطيعة بالرغم من الزوابع والعواصف التي تجتاح مخيّلتي. لم يٍُسمح لي بالسفر، فبقيت، قالوا «تزوّجي»، فتزوجت، «أنجبي»، فأنجبت. ثم صحوت. قبل أن أموت، صحوت.

في السيارة، في طريق عودتي من بيت أهل علي الجنوبي، شربت دموعي. كانت أمي تتنبّأ بجنوني. أهكذا يبدأ الجنون؟ هل الجنون هو أن أحبّ رجلاً لا أعرفه، أن أحبّ فكرته، فكرة وجوده التي أظنّها فكرتي لأنني أنا من ابتكرها ورسمها وبناها.
لا أعرف إذا كان في الحقيقة يشبه الرجل الذي أريده أن يكونه، هو رجل يلتقي فيه رجل آخر ميْت، شاعر ميت، وحلم قديم. أحببت قميصه الأبيض قبل أن أراه، ورائحته كيف تنبّأت بها؟

في السيارة أصارح نفسي. لا أكذب على البنايات وإسفلت الشوارع وموسيقى ألبوماتي المخفية في صندوق أسود. أقترب من بيتي، ثم أغيب في عتمة وحدة أحتفل بها كلّ ليلة.
أحضّر العشاء. يسعدني أن آكل وحدي. أشتاق لابنتي. أصبحت في العاشرة فتاة صغيرة قلقة مثل أمها. سمحتُ لها بأن تمضي إجازة الصيف مع أبيها. لذا أحسّ بسعادة غريبة. كأنني عدت مراهقة، وما أجمل مراهقتي.

أخيراً دخلت البيت الجنوبي الذي سكنني. حجارته وسقوفه وأبوابه كلّها مبنية في ذاكرتي، كأنني نُفيت منه وقررت بعد النفي أنه الجنّة. الشاعر اتحد مع الأرض، وأنا أريد أن أكون واحدة مع بيت أهلي علي.
لا أفهم سبب تعلّقي بصور هذا البيت، ولا أفهم حنيني إليه. بسببه أفكّر في الكتابة. أفكّر في أن أقرأ عن العمارة وأن أكتب تجربة دخولي إليه. تجربة عبوري من خارج البيت إلى داخله تبدّلني، أصبح طفلة، طفلة عارفة ما سيحصل، طفلة تملك حاسّة سادسة أو ربما سبع حواس.

(مقطع من رواية لهالة كوثراني بعنوان «علي الأميركاني» تصدر قريباً عن دار الساقي)

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077