'رسائل التحرير'
ما الذي جرى؟ كيف تكرّر مشهد دهس الأوطان وقد أصبح أكثر رعباً؟ كيف تغيّرت ألوان الربيع؟ لقد كان ربيعاً، وكان مسالماً وطموحاً وحالماً وعقلانياً وحديثاً.
هذا الربيع ألهم العالم وجال في مدنه، من مدريد إلى نيويورك وواشنطن. هذا الربيع حرّك مخيّلات الشباب ورثة إنجازات القرن العشرين الإنسانية. هذا الربيع قدّم للعالم أجمل الرسائل، رسائل التحرير.
(«رسائل من التحرير» عنوان كتاب باللغة الإنكليزية أعدّته كريمة خليل). قيل إنه أُحرق، ورأينا آلات الوحوش تدهس البشر. حين نعجز عن تفسير المشاهد، يقفز البعض إلى خطاب المؤامرات الخارجية.
أما القادرون على التحليل، فيؤكدون أن المؤامرة داخلية، وهناك مَن يقول: فلنكن واقعيين، الجيش هو النظام، والذين أُقيلوا وسُجنوا هم هياكل النظام، هم «أكباش الفداء». ألم تروا الشباب الذين هم روح الثورة وقلبها يصارعون لأجل أن تُسمع أصواتهم ولا تُسمع؟
دعونا نعود إلى الإنجاز ونتمسّك به، يقول الشباب، دعونا نعود إلى الميدان قبل أن تدنّسه مشاهد الرعب الأخيرة.
مبدأ الإلغاء مخيف، إلغاء الآخر واستضعافه، لقد عانينا منه في لبنان حين لم تكن الصورة سلاحاً بعد، وقبل أن تصبح حيّة تنطق. الصورة الآن تحكي الكثير، وفي معظم الأحيان لا نحتاج إلى مَن يحكي لنا لأنه سيحكي روايته هو.
يمكننا الآن أن نرى، وإن عجزنا عن تفسير أسباب ما نراه، لكننا على الأقل نرى ونتعرّف إلى ظاهر الحقيقة. أيام الحرب اللبنانية لم نكن نرى أيّ شيء، وكانت تلك العتمة سلاحاً آخر يُستخدم في تأجيج المعارك الطائفية، ووحشية المتوحش. لم يعرف أحد من سكّان بيروت ما كان يجري في مخيّمي صبرا وشاتيلا إلا بعد أيام من المجزرة.
أصبحنا نرى الآن، نرى القوي يهدّد بقوّته، وخلال لحظات سوداء، نكتشف أن الصورة أيضاً يمكن أن تؤجج الفتنة (والفتنة مصطلح تنعم علينا به اللغة العربية فنخفي قبح المعنى خلف حروفه)، ويخيّل إلينا أن تطوّر الإنسان كذبة كبرى.
كيف لا وقد قُتل بوحشية شبان حلموا بحقوقهم في العيش بحريّة وكرامة في بلدهم، وهم يفترشون أرض الميدان، ميدان التحرير.
وما يوجع ويصعب تفسيره هو أنهم قُتلوا بعد «الثورة»، بعدما ساهموا في تحقيق ما طالما اعتبروه معجزة.
نعود إلى السؤال نفسه، من أين نبدأ؟ من أين نبدأ بالنهوض؟ لكن مَن الذي يريد أن يبدأ؟ ومَن يريد أن ينهي غيره؟ الإنسان يلغي الإنسان لكن الصورة لا تلغي الصورةَ، وأرشيف الصور يقول إن الربيع مرّ من هنا، فهل يعود؟
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024