عتمة الصباح
شهر عسل في متحف
كانا سعيدين، لفّ شعرها الجعد الأسود بوشاح أبيض، ثم مشيا مبهورَيْن بالكلمات. كنا في متحف جبران خليل جبران. قرآ باهتمام الرسائل المحفوظة خلف الزجاج.
وضعت أصابعها على شفتَيْها وقرأت كأنها تقرأ سرّ الأسرار، ووقف هو إلى جانبها، يطرب لصوتها وينفعل بأدائها. بدت عليهما سعادة مَن ينتمي إلى عالم آخر لا شقاء فيه.
تخيّلتُهما يركضان في المتحف، هي تركض وهو يلحق بها، يتسلّقان الدرجات الغامضة إلى غرف أكثر غموضاً.
عرفت أنهما عروسان. واستغربت أن يزور عروسان هذا المتحف تحديداً. رأيتهما يقرآن ويتناقشان ثم يصمتان أمام صمت اللوحات الجبرانية.
وبدا وجودهما في المكان طبيعياً، كأنهما في متحف جبران لأن جبران قريبهما، ولأنهما يعرفانه جيداً، منذ كانا تلميذين صغيرين في المدرسة.
وجدت نفسي معهما في الغرفة الأخيرة، وهي مدفن جبران حيث أودع جسمه في قلب صخرة، وحيث ما زال حيّاً سريره ومكتبه وصناديق قدّرت أنها علب ريَشه وألوانه.
غطاء السرير أيضاً ما زال حياً والوسادات القليلة المنثورة فوقه. وما زالت حيّة الكلمات التي أوصى جبران أن تحفر عند قبره، كلمات كتبها لينبّه زائر قبره إلى أنه «حيّ مثله وإلى جانبه».
التقيت بالعروسين مجدداً في الغرفة الأخيرة حيث رأيت العروس تبكي، وحيث طلبا مني أن أصوّرهما. صوّرتهما ثم سارعا إلى الكاميرا للتأكّد من أن جبران الموجود في الصخرة يظهر خلفهما. لم يودّعاني. اختفيا وخرجت أنا إلى الضوء.
كآبة يومية
تعشق الوقت الذي تصحو فيه وحدها. تكاد تعانق هذا الوقت وترجوه أن يطول. لكن هذا الوقت نفسه لا يسمعها أو ربما يسمعها ولا يردّ عليها، إذ سرعان ما ينتهي حين تدبّ الحياة في البيت وأفراده وتدبّ فيها بقايا كآبة اليوم الفائت.
في هذا الوقت تحديداً، قبل انقضائه، يصيبها التذكّر المفاجئ، هي التي تتأخر دوماً في رؤية الأمور. لا حلّ لمصيبة النسيان هذه. لا حلّ لها إلا إذا نامت أكثر من عشر ساعات لتنسى.
تريد أن تنسى حقائق وتتذكّر حقائق أخرى. وهي تتذكّر كل شيء بوضوح إذا صحت في عتمة نهار جديد. العتمة الصباحية تصفّي ذاكرتها من «سخافات» يوم تمضيه في مركز عملها. هي «سخافات» أيام تمضي ولا تسألها إلى أين هي ماضية.
يحدث أن تسقط عليها فجأة عتمة أخرى في عتمة اليوم الجديد حين يكون موعد انقطاع الكهرباء بين السادسة والتاسعة صباحاً. وقبل أن تستعيد وعيها لتتذكّر مصائب كلّ يوم، الاجتماعية منها والسياسية أيضاً، ترميها الكهرباء المقطوعة في كهف أفكارها اليومية وتأفّفها وفي كآبة يوم جديد. وحين تغمزها كهرباء المولّد، يُتعبها الاعتراف بالطاقات المهدورة كلّ يوم.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024