قبلة اليأس
في باحة المتحف البرتقالي جلسنا لنشرب القهوة. الشمس غير حاقدة علينا، والهواء صديقنا الثالث، لطيف متفهّم.
ثمة طفل في الجوار يبتسم ويخبّئ وجهه في تنورة أمه. الهدوء طبيعي وصادق، لا يخيف ولا يؤذي، هدوء حقيقي، هدوء هادئ فعلاً.
ثم لم نتوقّف عن الكلام السهل اللذيذ الذي لا تسبقه حسابات من أيّ نوع. كلام غزير بالرغم من أنه بلغة ليست أماً ولا أختاً ولا ابنة عمّ. هي لغة مَن استعمر العالم وصدّق نفسه. كنا قد خرجنا من المتحف.
اشترينا فنجانين من القهوة وجلسنا على مقعد حجري في الخارج، قريبتين من مخرج المتحف حيث اكتشفنا أعمال الفنانة الكولومبية دوريس سالسيدو.
الدهشة التي ترافق لقاءنا بعمل فني تجعل صعباً هروبَ صورة العمل من الذاكرة. أتذكّر الدهشة وأسترجع ضيقي من الوقوف في القاعة التي هي بطل من أبطال عمل سالسيدو الفني.
في عملها هذا تعرض الفنانة 66 قطعة تشغل قاعة واسعة في المتحف.
33 طاولة خشبية طويلة ارتفعت على سطح كل منها طاولة مثلها تماماً وبينهما تراب نبت فوقه عشب أخضر مخترقاً الخشب أيضاً. قرأت لاحقاً عن الفنانة في قاعة أخرى تسمّى «غرفة القراءة»، وهي ملاصقة للقاعة حيث عُرض العمل. عرفت أن سالسيدو في بينالي اسطنبول عام 2003 ملأت الفراغ الذي حلّ محلّ بناية بعد تدميرها بألف وستمئة كرسيّ.
إلى كم كرسيّ تحتاج دوريس سالسيدو لتملأ قبور البنايات المفتّتة في بيروت؟ كلّ بناية بعد هدمها تترك مكانها قبراً مفتوحاً تحت سماء تزداد قسوة، ثم تملأ القبورَ عماراتٌ بلا قصص وعناوين بلا بشر.
في عملها الذي اكتشفناه في متحف الفن الحديث في مدينة مالمو السويدية Moderna Museet Malmo وعنوانه «صلاة صامتة»، تبحث سالسيدو عن الإشارة إلى بؤر البؤس في المدن، تلك المناطق الفقيرة حيث الجلادون ضحايا والضحايا جلادون، وحيث خسارة الأرواح أمر عادي يحدث كل يوم.
لا يحكي العمل قصص الضحايا، لكن الصمت يشير إلى أن الموت بأكثر الطرق دموية يصبح غير مستهجن حيث يحكم الفقر والإهمال. يصبح العنف حدثاً عادياً.
نحن أبناء هذا البلد، أبناء هذه المنطقة، يمكن أن نفهم الصمت المدوّي الذي تريد الفنانة عبره أن تستنكر العنف الرخيص.
خرجت مع صديقتي من صمت الطاولات التي تشبه القبور إلى صمت أكثر حياة وأخفّ حدّة في «غرفة القراءة» حيث الكتب المعروضة في معظمها تناقش موضوعات سياسية، وحيث قرأنا المزيد عن أعمال دوريس سالسيدو.
ثم خرجنا إلى الهواء نتحدّى الصمت ونثرثر، نحلّل بثقة أزمات العالم الاقتصادية منها والسياسية، العالم صغير في كلماتنا، نقلّبه بين شفاهنا ونقبّله أيضاً. نقبّل اليأس أيضاً.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024