تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

قبل اللحظة الأخيرة


بدأ اهتمام إدوارد سعيد بما سمّاه ثيودور أدورنو «الأسلوب المتأخر» (في كتاب هذا الأخير عن بيتهوفن) قبل أن يطلعه الطبيب على إصابته بمرض السرطان.
ثم أصبحت الكتابة عن الأسلوب المتأخّر مثل كل أعمال سعيد الأكاديمية أو النقدية أو الأدبية مرتبطة بحياته الشخصية. بدأ سعيد في أعوامه الأخيرة الكتابة عن أعمال غيره الأخيرة بأسلوبه المتأخّر.
إلا أنّه لم ينهِ كتابه حول هذا الموضوع بالذات، كأنّ إنهاء كتابته هو أيضًا كتابة نهاية حياته.

كان سعيد يؤجل كتابة خاتمة فصل حياته الغنيّ، فصل إعادة خلق الذات الذي بدأه مع كتابه «بدايات» Beginnings. وقد كان يعيد خلق ذاته في شكل مستمرّ، عبر القراءة والكتابة، ويعيد كتابتها في أعماله المختلفة والمتنوّعة الاتجاهات.
وظهر الارتباط بين الشخصي والعام في أعماله عبر اختياره عناوينها، منذ «بدايات» الذي وضعه في أوائل مسيرته الفكرية وصولاً إلى «الأسلوب المتأخّر» الذي ظهر بعد رحيله.
وقد أوضحت زوجته مريم قرطاس سعيد، في التمهيد للكتاب الذي صدر بعد ثلاثة أعوام على وفاته، أنه قبل ثلاثة أيام من رحيله كان يخطط للعودة إلى العمل على كتابه «الأسلوب المتأخر» والمواظبة على إنهائه. ولعلّ اقترابه من الموت جعله يؤجل العمل على كتاب يحلّل إنتاج المبدعين عند اقترابهم من النهاية.
فقد ترك سعيد هذا العمل، الذي افتُتن به خلال أعوام، غير منجز بالرغم من أنه بعدما اكتشف إصابته بالسرطان انكبّ على تجميع مقالاته وأبحاثه في كتب عدة، ووضع مذكّراته ولم يتوقف عن التدريس والسفر وإلقاء المحاضرات.
لذا فإن الأسلوب الأخير الذي اهتمّ به سعيد وأشار إليه هو أسلوب مقاوم، ويمكن القول إنه ثائر يغذّيه الإحساس بأن الوقت المتبقّي ينقضي سريعًا. هذا الإحساس يدفع المبدع إلى أن يكون واعيًا تمامًا، قوي الذاكرة وعارفًا ما يحمله الحاضر. فيختار أن يعيش التأخّر كشكل من أشكال المنفى.

لقد ربط سعيد في معظم أعماله بين التجربة الخاصة والتجربة العامة في إطار موقفه النقديّ المؤكّد على العلاقة بين النصّ وظروف كتابته. انطلق في مذكراته، التي هي سرد الخاص، من هذا الخاص إلى شرح نواة فكرته في كتابه الاستشراق.
وبحث في كتابه الأسلوب المتأخّر عن تحوّلات الكتابة في مسيرة المبدعين وكيف يؤثّر اقتراب الموت من المبدع وإنتاجه.
واهتمّ بالعلاقة بين حالة الجسد وأسلوب الكتابة، بين إدراك اقتراب النهاية والمجاهرة بالحقيقة والسعي إلى الاستفادة من الحياة وحجز حيّز شخصيٍّ في التاريخ الذي يصنعه الإنسان.
تحدّى سعيد موته بالبدء بتشريح تأثير الموت في كتابة غيره. وكان هذا التحدي أسلوبه المتأخر الذي دفعه إلى الاستمرار في الكتابة حتى اللحظة الأخيرة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077