صداقة المرايا

اختارت أن تعيش في آخر الدنيا. ومسألة الاختيار هذه لم تقنعني يوماً. أنختار ما نريده؟ في معظم الأحيان نختار ما أُجبرنا على اختياره، أو نختار من دون أن ندرك أننا نختار ما لن يمكننا الهروب منه خلال حياة كاملة ربما. اختارت صديقتي أن تعيش في آخر الدنيا. واختارت أن تزورنا فقط في أيام الصيف. نلتقي صباحاً في أيام الإجازات الصيفية «الدبقة». أحبّ أن أراها صباحاً، سخريتها من المواطنين «غير الصالحين» تمتعني. أستمع إليها وهي تستنكر وترفع صوتها حين يصبح الموقف المنقول خطراً. «صباح الخير»، تهرب مني الكلمتان إلى كلماتها «المدفعية».

تقارن بين آخر الدنيا وهنا. «وهل نحن في أول الدنيا؟» تسألني. «لا، لسنا في أي مكان، نحن خارج التصانيف»، أجيبها بجدّية تزعجها. سخطها هو ما أحتاج إليه لأشعر بأن ثمة مَن يساندني في ضياعي اليومي، وأسباب الضياع متعدّدة هنا، من مسرحيات إشارات السير وقلّة أدب بعض سوّاق السيارات إلى الأمراض النفسية التي تتحكّم بنا نحن الأصدقاء والزملاء والموظفين والأبناء والأمهات والآباء. أستعين بسخطها لأبتسم، لا أعلم متى كبرنا وأصبحنا في «الوسط»، في «وسط الوسط». «وسط ماذا؟» تسألني وتجيب، «نحن أيضاً خارج التصانيف». وتكمل، لكن فعلاً كيف أصبحنا مسؤولتين عمّن نحن مسؤولتان عنهم الآن؟

أعدت اكتشافها لأنها عادت هذا الصيف لزيارتنا. أعدت اكتشاف الشعور بالراحة في حضرة الصداقة الحقيقية. أعدت اكتشاف مرآتي. أجلس قبالتها، نتكلّم، أتكلّم ولا تستمع إليّ، تتكلّم ولا أستمع إليها. ثم نستمتع بفسحة من الصمت. هذه هي الصداقة، صداقة المرايا. رغم سخطها اليومي هنا، تبقى ناعمة، تشتم بأدب، إذا شتمت.

يُضحكني ضياعها، كلامها الكثير «المفركش». مشينا في الممرّ الطويل، تعبت ولم تتعب، مشينا إلى كرسيين في زاوية الاستراحة، هي استراحة فعلاً الدقائق التي أفرغنا فيها الكلمات من حيث لا ندري. ثم مشينا مجدداً، من ممرّ إلى آخر. أتيه في الكابوس، في ممرّاته وسراديبه وفي الكلمات. هكذا مرّت ست عشرة سنة، نصف عمرينا أتعرفين؟ سألتُها وأعدت السؤال. لكنّها لم تنتبه إلى ما قلتُه.

قبل أن تسافر تركتُ لها ست عشرة وردة بيضاء، وضعتْها في الإناء في غرفة كانت غرفتها، في بيت كان بيتها، وسافرت. عدت أنا إلى بيت أصبح بيتي وغرفة أصبحت غرفتي. موعدنا المقبل في الصيف المقبل.

مقالات ذات صلة

خارج الصورة

عدو المرأة

هالة كوثراني