'أسلوب محمود درويش المتأخّر'
لم يعرف محمود درويش أن قصيدة "ههنا، الآن، وهنا الآن" ستكون أولى قصائد "ديوانه الأخير" الذي صدر بعد وفاته. كتب كلاًّ من دواوينه كأنه يكتب ديوانه الأخير، أنهاها كلّها، إلا الديوان الأخير لم ينهِه.
لم يرد درويش أن ينهيَه، كما لم يود أن ينهيَ أبرز قصائد هذا الديوان، فمنحها عنوان "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي،" لتمثّل القصيدة حياته. وقد تَصَارع في القصيدة مع الموت، هو الذي دعا إلى المجاهرة بموقع الخاسر لأن في "الهزيمة إنسانية أهمّ وأوسع من الانتصار،" (من فيلم "موسيقانا" لجان لوك غودار)
كانت تقارير الأطباء قد أنذرته بأن «الشريان المعطوب في قلبه قد ينفجر في أية لحظة». (راجع (ي) مقالة حسن خضر، "الشاعر ضيفًا على الخريف الأخير،" الحياة، 21 آب 2009).
وكان الشاعر يؤجّل، باستعمال سلاح الكتابة، هزيمتَه أمام الموت. قاوم درويش الموت باستمرار، خلق ذاته بالكتابة ورفضه إنهاء القصيدة، فكتب:
يقولُ لها، وهما ينظران إلى وردة
تجرحُ الحائطَ: اقتربَ الموتُ منِّي قليلاً
فقلت له: كان ليلي طويلاً
فلا تحجب الشمس عنِّي!
....
لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي
لا أريد لهذا النهار الخريفي أن ينتهي
دون أن نتأكَّد من صحة الأبدية.
...
ينبئني هذا النهار الخريفي
أنّا سنمشي على طرق لم يطأها
غريبان قبلي وقبلك إلا ليحترقا
في البخور الإلهي.
درويش الذي رثى نفسه في كتابه «في حضرة الغياب» وحاور الموت في قصائد عديدة خصوصًا في «جداريته»، لم يرثِ نفسه في ديوانه الأخير بل احتفل بالحياة وبحبّه لها. وبدا مركّزًا على الحاضر داعيًا للاستفادة منه. وفي نهاية النهاية تمسّك بما توصّل إليه في قصائد ما سمّاها المرحلة الجديدة، وهو أن تتجاوز القصيدة الظرف السياسي، فلا تكون سلاحًا في معركة. كما تجاوزت دورها في المقاومة الثقافية لتكون "صلاة مشتركة بين الأنا والآخر":
لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي أبدا
لا أريد لها هدفًا واضحًا
لا أريد لها أن تكون خريطة منفى
ولا بلدا
لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي
بالختام السعيد، ولا بالردى
أريد لها أن تكون كما تشتهي أن
تكون:
قصيدة غيري. قصيدة ضدي. قصيدة
ندِّي...
أريد لها أن تكون صلاة أخي وعدوّي.
كأن المخاطب فيها أنا الغائب المتكلّم فيها.
كأنَّ الصدى جسدي. وكأني أنا
أنتِ، أو غيرَنا. وكأني أنا آخري!
أسلوب درويش الأخير غير صارخ، هو أسلوب ثائر ومقاوم في هدوئه وقوة إنسانيته. فصوت درويش الهادئ في هذه القصيدة، وخطابه الشعري الدافئ يحتفلان بالإنسان وبتفاصيل حياته العادية والمدهشة في الوقت نفسه.
لقد قاوم درويش رغبة القارئ التقليدي الذي بحث دوماً عن التصفيق لعبارة "سجّل أنا عربي" في قصيدته الشهيرة "بطاقة هويّة،" ففرض على قارئه أسلوبه الجديد ثم أسلوبه المتأخّر. وكان درويش يحبّ أعماله الجديدة، ورغم خشيته من خيبة الجمهور إذا قرأ من جديده غير الحماسي، إلا أنه كان يصرّ على طرح رؤيته الجديدة.
واستطاع أن يقنع الجمهور بأهمية خروجه من الدور القديم رافعًا هذا الجمهور حتى اللحظة الأخيرة إلى شعره الجديد والذي سيبقى جديدًا.
(غاب درويش في 9 آب/أغسطس عام 2008)
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024