تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

'كولاج' الماضي

مشيت وحدي، رائحة أزهار شجرة «الفتنة» أخذتني إلى طفولتي، إلى مشاهد قصيرة وقليلة، لكنها أصبحت طفولتي كلّها. المشاهد التي نحملها معنا وترافقنا رغماً عنا، نملّها أحياناً ولا تتحرّك من خزانة الذاكرة، تصبح «كولاج» الماضي.
جعلتني الرائحة أحسّ بوحدة غريبة آنستْها خطواتُ امرأة تمشي أمامي، لعلّها جارتنا في الحيّ لأنها تتحرّك مرتاحة في المكان، وتلبس ما يمكن القول إنه زيّ موقت.
ليست ثيابها ثياب البيت، هي ثياب السوق، ليست حتماً ثياباً يمكن ارتداؤها في زيارة رسمية أو مهمة رسمية. صوت خطواتها خفّف وحدتي. تبعتُها متحدّية شمس الصباح.
تحمل محفظة من الجلد الملوّن بالبنفسجي، تحملها بيديها الاثنتين وتشدّ بهما عليها. وقفتْ قبالة واجهة بوتيك أزياء نسائية يشغل زاوية الشارع.
وقفتُ أتأمّل لوحة في محلّ لبيع الأثاث. الشمس في ظهري، ألمس ظهري، فألمسها. مشت الجارة وتبعتها. أنهت دورة المشي نفسها، مرّت بالمدرسة ثم انعطفت يميناً، مرّت مجدداً بمحلّ الأثاث الكبير، أكملت طريقها نزولاً نحو الرصيف الذي ينتهي ببوتيك الأزياء النسائية. وقفتْ مجدداً أمام واجهة البوتيك. لم تدخل.
تمنّيتُ من قلبي أن تدخل المتجر، لكنها بعد ثلاث دقائق بالضبط، تحرّكت للانطلاق في دورة مشي ثالثة حول صفّ البيوت والمحالّ المتلاصقة. تبعتُها، وضاعت مني رائحة شجرة «الفتنة». في منتصف دورة المشي نفسها، توقفت. أتعبتني جارتي. تركتها ومضيت.

«الفتنة»
في المقعد الأمامي جلس «المسؤول في الدولة» باسماً لطيفاً ذائباً في ليل رومنسي. الأمسية ثقافيّة تعد بتقديم عمل فنّي، هو منحوتة متحرّكة. تتسلّل موسيقى الكمان إلى ليل صيفيّ جبليّ منعش. السماء غامضة فوق ألوان المشهد المسرحي.
ثمّة منصّة يقابلها مقعد المسؤول «الأماميّ» دوماً. هذا المسؤول «المثقّف الحسّاس» كان مسؤولاً أيام الحرب اللبنانية، في ثمانينات القرن الماضي تحديداً، عن معارك غير مسؤولة أدّت إلى مقتل كثيرين وتهجير من لم يُقتل.

المسؤول حسّاس، تطربه الموسيقى ويؤثّر صفاء الليل فيه، وتكاد تدمع عيناه لرؤية عمل فنيّ. المسؤول حسّاس، مَن يجرؤ على تذكيره بما يوجع قلبه؟ مَن يستطيع تذكيره بالذين قُتلوا؟ جميل الكلام عن ضرورة ألا ننسى ما فعلناه بأنفسنا خلال أعوام الحرب الرسمية.
ولا يمكن أن ننسى، لأنّ معظم المسؤولين عن التخطيط لمعارك «الحب» بين الإخوة وتنفيذ هذه المعارك أصبحوا «مسؤولين» في «الدولة». لا ننسى لأن الحرب مستمرّة، لكننا نتناسى.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077