تاكسي
كلّ مرة ينقذها المنام. ترى الكلمات مكتوبة على ورقة، تراها دوماً على ورقة. لا يقتحم الكومبيوتر مناماتها التي تشبه أفلاماً قديمة. تقرأ في المنام الكلمات وتستمع إلى صوتها وهي تقرأ بانتباه. تقول لنفسها إنها انتهت من واجبها الأسبوعي.
تحاول مرة كلّ أسبوع أن تترك لزوجها رسالة. يمكن أن ترسل إليه إيميلاً أو رسالة هاتفية قصيرة أو جملتين على الفايسبوك. لكن الكلمات التي تظهر في منامها تختفي من ذاكرتها ما ان تصحو. ولماذا تصحو؟ تسأل.
في الصباح تأخّر زوجها في التعليق على كآبتها قبل أن يتركها وحيدةً في البيت. في آخر الليل، كلّ ما تقوله أو تكتبه مجنون. «لا تتركي الكلام الثقيل لآخر الليل أو أول الصبح».
«متى نتكلّم إذا لم نتكلّم في أوقات الحنان؟» أجابته. ثم خرج.
طردت من رأسها هذا الحوار الصباحي شبه اليومي بينها وبينه لتعيش بحماسة مشهداً جديداً في التاكسي. صديقتها الجديدة طاهية مهووسة بألوان الخضر ورائحة الأعشاب.
جاءت من باريس لتطهو في مطعم قريب من بيت صديقتي التي هنّأتْها في بداية تعارفهما على أنها أول طاهية (امرأة) في مطعم تتعرّف إليها. ثم أصبحتا صديقتين.
لم تقع الطاهية الحسناء بعد في الغرام. تقول إنها أمضت أجمل ليالي صباها في المطبخ. وقد حملها المطبخ في جولات حول العالم، زارت خلالها مدناً مختلفة أثرت ثقافتها ومخيّلتها.
وهي تقدّر لشغفها منحَها فرص التعرّف إلى العالم، لكنها تعترف بأنها انتظرت طويلاً قصة حبّ تغيّر خططها.
تعيش الطاهية في بيت استأجرتْه قريباً من المطعم ومن بيت صديقتي هذه التي أصبحت صديقتها. تعيش فيه مع ببغاء تقول إنه يلطّف وحدتها. وأجمل ما في علاقتها بصديقتي أنها مترجمتها أيضاً.
تترجم لها الأحاديث التي تدور في سيارة التاكسي خصوصاً. يمكن لأحاديث السُوّاق في بيروت أن تكون ممتعة ومفيدة ويمكن أيضاً أن تصيب الراكب باكتئاب.
خلال رحلة يومية تجمع صديقتي وصديقتها الطاهية تحدث أغرب الأمور. وهما تسردان لي مغامراتهما كلّما التقينا. ثمة بين سُوّاق سيارات التاكسي، أبطال المغامرات، مَن يصرّ على الغناء لفيروز وعلى أن تعطي كلّ من الراكبتَيْن رأيها بغنائه.
سائق آخر طلب منهما أن تستمعا إلى قصيدته القصيرة، كما وصفها، ووجدتا نفسيهما مضطرتين للتصفيق له. سائق الأسبوع الماضي ذو ميول يسارية، غاضب من مستوى التعليم في المدارس الرسمية لأنّ أولاده لا يتكلّمون الإنكليزية بطلاقة.
«لماذا يتكلّم أولاد جاري الإنكليزية؟ ولماذا يذهبون إلى مدرسة خاصة؟ أين العدل في هذا المجتمع؟».
هربت صديقتي من وجع كلامه إلى هاتفها، اتصلت بأمها لتتطمئن عنها ريثما يكون السائق قد انتهى من العزف على أسئلتها وخجلها من عرق الكادحين في مجتمع متوحش.
في التاكسي الوجوه تتبدّل وتبقى الطريق نفسها، لا تتغيّر، تذكّرنا بأن شيئاً لم يتغيّر هنا. مَن يغيّر وكيف السبيل إلى التغيير؟ ذلك الصباح كتبت صديقتي لزوجها: ما زلنا في المكان نفسه، لم نتقدّم إلى رحيل آخر. نهرول والمكان ثابت.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024