تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

غروب في نيويورك


السماء عالية هنا، فوق السماء سماء لا تُطال، والشمس تفرض نفسها في غيابها على ما أصبح طبيعة ثانية، طبيعة شبه أصلية هي المباني الشاهقة التي تجعلك تبحث عن الشمس وعن نفسك.
تخاف من الشوارع، من ظلال الإسمنت والزجاج، تحسّ بأنك ضئيل وصغير وتائه أيضاً. وتسلّيك هذه المباني ليلاً بأنوارها. تفكر في أن لعبة الأنوار لا تبهر الأطفال فقط.
كل القلوب انبهرت بالأضواء، هنا وهناك تظهر وتختفي، تلفّك وترميك في حالة من الذهول، ثم فجأة في الفراغ. أين الابتكار في إنارة الباطون والزجاج؟ وأين الابتكار في فرض الإعلانات بأحجامها الضخمة على الباحث عن جوهر المدينة، عن روحها في ثورة روحها. في أحياء أخرى تمشي وتحسّ بالكهرباء في الهواء، الكهرباء في العيون والأجسام التي تتوق إلى الاحتكاك بنور الشمس ونسيم يوم صيفي.

هنا الكلّ مختلف والكلّ يريد أن يظهر اختلافه.
العمارة قديمة والحياة تسابق الزمان. هذا التفاوت بين التاريخ والحاضر مذهل، كأن الزمان مضغوط وكأن السرعة قدر. السلالم على واجهات البنايات تمنح بعض شوارع المدينة أنس التاريخ وعمقه.
والغاليريات الفنية، في سوهو خصوصاً، تجعل التمازج مثيراً للاهتمام بين التاريخ والحاضر بسرعته الهستيرية والطابع الثقافي الفني لشوارع تلتقي بشوارع آخرى تلتقي بدورها بشوارع عريضة حيث البنايات الضخمة تبدو مركّبة كلعب الليغو، مركّبة وملوّنة ولمّاعة أيضاً. هناك حيث كل شيء ضخم، ترتاح العصافير على إشارات السير الضخمة، وتمتد أغصان الأشجار إلى بعض واجهات المباني وتكاد تلامس سطوح سيارات التاكسي الصفراء.

مقهى السبت
إذا بحثت عن مقهى على الرصيف في نيويورك كلّها لن تجده بسهولة. للمقاهي كلّها أو معظمها، في المتاجر الكبرى وفي الشوارع، اسم واحد. تنتظر قهوتك، كما قال صديق، ليرميها لك شخص من خلف طاولته ثم تحملها وتبحث عن مكان تحاول أن تستمتع فيه بكوب ضخم من القهوة الخفيفة السوداء أو المغطاة بالقشدة. وكل شيء هنا مغطى بطبقة ما، كل شيء ملفوف حول نفسه.
في سنترال بارك يوم السبت المهرجان النيويوركي اليومي مستمرّ. ثمة عروسان في إحدى الزوايا ينتظران من القاضي كلمة السرّ، وهناك مسابقة للمتزحلقين من الأولاد على مساحة مبلّطة ملساء. تستمع إلى عزف رائع على الغيتار لسيدة تجاوزت الستين، لا يمكن ألا يأسرك شعرها الأبيض الطويل، نعم أبيض وطويل.
تحت الجسر في الحديقة العامة عائلة يغنّي أفرادها، الأم والأب والولدان، الأغنية صلاة يؤدونها بخشوع. يكاد يصعقك تعلّق كثيرين هنا بالماورائيات، وإيمانهم البسيط أيضاً والخالص من أسئلة العقل أحياناً.

"الجهة الأخرى من العالم"
أصحاب الوجوه التلفزيونية الأميركية يتكلّمون سريعاً بأصوات مرتفعة. البرامج التلفزيوية سباقات مستمرّة، ونحن الذين نظنّ أن عوالمهم تدور حول عوالمنا، نرى أنهم لا يهتمّون بما يدور خارج أحيائهم ومنازلهم. ومثل البنايات الشاهقة، أسوار عوالمهم مرتفعة جداً، وكل شيء حولهم ضخم.
تشغلهم في هذه المرحلة محاكمة الأم الصبية المتهمة بقتل طفلتها، وهو المسلسل الأشد جذباًَ للمشاهدين، على قنوات مختلفة. نحن الذي سمّتنا زميلة أميركية "الجهة الأخرى من العالم" لسنا في بال الجهة "الأولى" من العالم.
في بادئ الأمر أزعجتني جملتها التي اعتبرتها عنصرية وتعبّر عن نظرتها "الاستشراقية"، لكنني تأكدت لاحقاً من أن كلامها مصدره نوع من الغباء اللطيف الذي يسيطر على تصرّفاتها، وهو غباء فعلي وليس استغباء. 

هذه المرة الشمس كانت لطيفة، لكن سرعة الهواء واللحظات أنهكتني. كل شيء سريع وهادىء بالنسبة إلى بطء الحياة وصخبها في مدينة مثل بيروت. لكن في الوقت نفسه في نيويورك لكل مشهد تفسيره رغم غرابته، المنطق موجود، أما الذوق الرفيع، فليس دوماً موجوداً.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077