ألكسندر ماكوين في متحف ميتروبوليتان في نيويورك
قبل أن أدخل معرض جمال متوحش Savage Beauty (مستمرّ حتى 7 آب/أغسطس 2011) لأزياء المصمّم البريطاني المنتحر ألكسندر ماكوين في متحف ميتروبوليتان للفنون في نيويورك لم أجهّز نفسي لتجربة تهزّني، هي تجربة مسرحية راقية تتجاوز كل ما يمكن للمخيّلة أن ترسمه عن معرض للأزياء وإن كان مصمّمها بعبقرية ماكوين.
منذ الزي الأول يحضر ماكوين، كأن روحه تجول في المكان، وتترك لمسات حضورها في الهواء الذي يطيّر حواشي الأزياء، وفي رائحة الهواء أيضاً، والموسيقى ورهبة المرايا التي تفرض بدورها وجود المصمّم الغائب قبل أن يظهر في كلّ زي من أزيائه.
وفي كل زيّ أيضاً تظهر حكاية بل حكايات، ويتسلّل من الأقمشة إلينا التاريخُ والحاضرُ ومواقف ماكوين السياسية والإنسانية، يصبح كل زيّ اعترافاً، وتصبح الأزياء المئة سيرة حياة مصمّمها القصيرة (1969-2010).
كان عليّ أن أبحث عن صورة المصمّم في ذاكرتي لأحاول فهم العنف الواضح في أزيائه. ولم تساعدني صورته "اللطيفة" على فهم عنف إيحاءاته الموجع والضعيف، والصادم والمفاجئ. هذا العنف يجعل مفهوم الموضة، بالنسبة إليه، ثائراً على المفهوم العام للأزياء والأناقة.
والأزياء الماكوينية لوحات تاريخية يظهر فيها تأثر المصمّم الراحل بالفن القوطي وبالقادة الفلمنكيين والوجوه الجيمسية (جيمس الأول ملك إنكلترا) والمسرح الإليصاباتي (عصر ملكة إنكلترا إليرابيث الأولى) والثقافة اليابانية، وبجذوره الاسكوتلندية.
كأن المصمّم أراد أن يكون صريحاً وألا يخفي الحقيقة، وهي أن الحقيقة نفسها ليست جميلة، إذا كنا نقصد الانسجام في إشارتنا إلى الجمال، وليست طبيعية أو متوقّعة أو مثالية بل هي غريبة، وقبيحة وجميلة في الوقت نفسه على نحو مضحك أو موجع.
وقد قال ماكوين إنه يجد الجمال في «الغروتسك» (قطع فنية زخرفية تتميّز بأشكال بشرية وحيوانية غريبة وخيالية وكاريكاتورية) «كي يجبر الناس على النظر إلى الأشياء».
هكذا نرى الأجنحة المصنوعة من الريش، التي عشق ماكوين شكلها وخفّتها، مقلوبة وشبه مشوّهة. أما أنوثة الدانتيل، فهي دوماً مكسورة بالجلد الذي يوحي بالعنف، خصوصاً الأحزمة الجلدية الملتفّة حول الزيّ مكبّلةً صاحبته، في حين تبدو بعض الأكسسوارات كأدوات تعذيب: القبعة والصدّار والسلاسل والأحذية. وفي أحيان كثيرة يأخذ القماش الجلدي شكل جلد المرأة أو بشرتها، ليصبح جلداً ثانياً فوق جلدها، طبيعة ثانية وشخصية ثانية.... «لست معجباً بالنساء اللواتي يبدين ساذجات. وثمة أجندة مخفية في ضعف الرومنطيقية»، قال ماكوين.
ثمة فرق بين الاستمتاع، الذي يحمل معنى الاستسلام للترفيه، وبين التأثر الذي يخطف الإنسان ويوجع القلب في الوقت نفسه، هي متعة تترك أثراً، تعلّم في النفس والذاكرة، فليس التأثير سهلاً وليست الشروح سهلة، يصبح كل زيّ قصيدة، وليست سهلة قراءة الشعر، خصوصاً أن "شعر" ماكوين ذاتي إلى أبعد الحدود، لكن يتراكم فيه أيضاً هوسه بتاريخ أجداده الاسكوتلنديين وبتفاصيل حضارات أخرى وتأثره بالرومنطيقية، إلى جانب الفن الأدائي المعاصر وبنظرية داروين في النشوء والارتقاء، مواجهاً أخيراً الطبيعة بالتكنولوجيا، مفتوناً بانضغاط الفضاء والزمان بواسطة الانترنت.
المعرض الذي هو في الحقيقة عرض مسرحي متنوّع الأبعاد وأساليب التواصل مع المتلقّي، يعكس ما قاله ماكوين نفسه عن إبداعه: "لا رجوع عني بعد الآن. سأقودكم في رحلات لم تحلموا باحتمال القيام بها." لقد كان ماكوين فعلاً "رومنطيقياً مصاباً بالفصام".
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024