تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

يوم غريب

كنت أبحث عن شيء ما، أمشي ولا أجده، وما جعل الأمور صعبة أنني لم أدرك تماماً أنني أبحث عن شيء ما. هذا الدوران منهك ولذيذ. ثم وعدت نفسي بأن أتوقّف عن الدوران، وجلست في الغرفة وحدي.
كانت الحياة بكامل جنونها تسري في عروق ضيوف الطبقة السفلية. وأنا بقيت في الطبقة السادسة عشرة حيث السماء قريبة ورؤوس الأبراج قريبة أيضاً. وحدها نجوم الليل بعيدة.
وهذا ما كنت قد لاحظته الليلة السابقة حين صحوت فجأة من حلم القصف المرعب والغريب على ليل نيويورك. وما لاحظته أيضاً أن الطيور لا تختار السماء هنا، بل كأنها لفضولها اختارت الأرض فضاءها.
تبقى على الأرض ملتصقة بطعامها، لذا قررتُ أن الطيور الأميركية ثقيلة الدم. وبقيتُ في الغرفة. أنظر إلى السقف الأزرق والسماء الرمادية، ثم أرى السقف رمادياً والسماء زرقاء.

حين أخبرت الفتاة التي تعرّفت إليها في مطعم الفندق، عن ملاحظة السقف والسماء هذه، قالت إنها لا تفهم كلماتي، ثم بدأت تتحدّث عن صديقها الذي تركته في بيروت والجدار الذي سيصطدمان به حتماً. أي جدار هذا والسماء مفتوحة فوقنا على أزرق مفتوح؟

أصرّت صديقتي الجديدة، كلّما تحرّكت الحياة حولنا، أن الصدفة تقرّر اللحظة التي تعيشها، وأن كلّ ما يحدث في حياتها رُتّب خصيصاً لها، وأنها هي فقط تفهم اللعبة، لعبة الأحداث المرتّبة، وتعرف أن تستسلم لها.

كل شيء بدا لي غريباً. على رصيف شارع برودواي في سوهو في نيويورك، قالت لي العجوز أنني أنقذت يومها. حدّثتني عن القمر الذي يمكن أن ألفّه حول معصمي، والنجمة التي سأعلّقها حول رقبتي والقلب الذي سيتدلّى فوق قلبي. العجوز التي لوّنت شفتيها بأحمر ناري برتقالي، تبيع الحلي على الرصيف لتأكل آخر النهار.
الثنيات فوق شفتها العليا تجعل لكلامها معنى عميقاً، وتنورتها الخضراء المزيّنة بعصافير صغيرة بيضاء تذكّر بربيع ما. في وجهها ما لا تمكن مقاومته، وهو ما جذبني إلى التحدّث معها. لا أعرف ما أسمّي ما يتركه فيّ وجهُها، ليست راحة بل نوع غريب من الإزعاج الذي يمكن بسهولة إدمانه، إزعاج يشي بأنني أمام شخص مثير للاهتمام، أمام امرأة علّقت على الرصيف مع حليّها تاريخاً غنياً ومفاجآت.

قبل أن ينتهي كلامنا، وبعدما سلّمتني قمري الفضّي الصغير ونجمتي الذهبية، رأيت صديقتي الجديدة، التي التقيتها في مطعم الفندق، مقبلة نحونا تبتسم ابتسامة المنتصر الواثق بنفسه، قالت:
- «ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وكيف وصلنا إلى المكان نفسه؟ ألم نتفق على اللقاء في الغد؟ أرأيتِ لم ينفع تخطيطنا، لم يكن سوى كلام أضعناه وأضعنا معه الوقت. اتركي الحياة تقودك، سلّمي نفسك للصدف».
-«أألغي عقلي؟»
-«لا، مَن قال لك أن تلغي عقلك، لكن ارتاحي قليلاً، افتحي راحتيك وتوقفي عن القول إن نهارك هذا غريب، الحياة كلّها غريبة وغرابتها أجمل ما فيها».

رأيت بائعة الحلي العجوز التي لا تفهم لغتنا، تبتسم وتهزّ برأسها موافقة على كلام الصديقة الفضولية والمزعجة أيضاً.
لا يمكن أن أقول إنني أفهم ما يجري وسأردّد كل لحظة «إنه يوم غريب فعلاً».

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077