تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

سهرة

«ثمة أماكن تبدو الحياة فيها غير حقيقية، كأنها تمثيلية لا بد أن تنتهي أحداثها». هذا ما يقوله دوماً لنفسه، وهو في مكتبه. ثمة غرف يدخلها في المستشفى حيث يعمل، يقول إنها عالم تحت هذا العالم، أكثر قبحاً وأقلّ ألواناً، يقول إنها عالم آخر.

المطار أيضاً عالم آخر. في المطار، يُنصت إلى أحاديث سيدة تجلس بجواره لأنه مجبور على الإنصات إليها. يزعجه اللون الوردي على شفتَيْها، لا ينظر باتجاهها لكنها يفهم سريعاً أنها تغيّر صوتها حسب هوية المتصل، ينظر في الاتجاه المعاكس، وتتسلّل إليه كلماتها الأميركية، يفهم أن نغمة الدلال لا تشبه نبرة الحدة أو لكنة الاستهزاء.
يفهم هذه الفروق كلّها، وينتظر. في المطار يُفرغ عينيه من صور الأيام الأخيرة. الحياة في المطار ليست حقيقية، حياة ممثَّلة والأدوار فيها مكتوبة مسبقاً ومعروفة. يفكر في تغيير مكانه، لكن اتصالات السيدة تسلّيه.
ثم يتعاطف مع النوم قبل أن يسلّم نفسه له. أي هواء يبقيه الآن حيّاً؟ هو الآن بين هواء البارحة وهواء اليوم، وهي، حبيبته السابقة، لا تفكر فيه. هي مشغولة بعدّ الحروف في الكتب. ولا تعدّها في انتظار عودته بل لأن هذا ما تعلّمت أن تفعله لمحاربة انسياب الوقت من عمرها.

في الليلة الأخيرة، ليلة البارحة، كان شعرها يسبح في الهواء، يتمدّد في الاتجاهات كلّها من دون خجل. حملت كأساً في يدها وابتسامة ما لبثت أن ألصقتها على الشفتين وعلى أسنانها أيضاً. وهو يحبّ أسنانها.
في تلك الليلة الأخيرة ابتسمت أسنانها فقط، وبقي قلبها عابساً. وكان الليل مجنوناً، والهواء ثائراً مع موسيقى الليل. سهرة بدأت سعيدة، وأصبحت غريبة بعدما ثار الهواء على صيف يحاول تكبيله.
ما الذي كان ينقصهما؟ لم يحلما يوماً بمشهد كهذا المشهد، هما معاً في ليل جميل وحاسم. صدّته. وهي لا تقصد أن تؤذيه، بل هو الهواء يدفعها إلى التصرّف بلؤم. يطلب منها أن تعود إليه، ويشرح لها أن ثمة مشاعر لا تموت بل يتطلّب صحوها نفض الغبار عن مشاهد من الماضي مألوفة وتسهل استعادتها.

هي طلبت منه الانضمام إلى سهرتها ثم تجاهلته. وهو قبِل بالاكتفاء بمراقبتها. ليس شعرها سميكاً، خفّته أجمل ما فيه، تركته طويلاً أسود، ذلك السواد اللطيف وغير العدائي.
الأحمر على أظفارها يقبض على الحقيبة ثم على الكأس ثم على الهاتف. لم يقلقها احتمال رحيله، ولم يرَ في عينيها شوقاً إليه، بل تركته ليكمل السهرة وحيداً، وذهبت إلى موعد مع القمر. انصرفت إلى الوقت الذي حارت في ما تفعل به، ورفضت أن يكون لها وقتُه هو. قالت إنها الآن سعيدة بحريتها. وليست سعادتها تعبيراً عن أنانيتها، فهي أنانية إلا في حبها له، لكنها تهرب من الحاضر الذي يعيد نفسه، وتُدمن الحنين.
تركته وتسلّلت إلى الليل. نافذة مشاريع أيامها المقبلة مفتوحة على احتمالات عدة لأن تكون سهراتها المقبلة سهرات حنين. ما هذا المرض الذي لا يمكن قتله؟ 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077