صباح غريب
من أجل قليل من الهواء كان عليها أن تبحث في البيت كلّه عن مكانها. لم تتأكد من أنها وجدت مكانها هذا، فضاءها الخاص بكل وسوساتها وانقلابات مزاجها. الهواء ينقطع مع بقاء الصور واضحة في الذاكرة، وإذا تلاشت تفاصيل الصور وجدتْ هواء تتنشّقه. والتفاصيل لا تتلاشى بل تدقّ أبواب صباحها صور أطفال هم ضحايا حقد لا يعرفونه، وضحايا غضب الوحوش التي تفترس بلاداً وتواريخ ومصائر.
ثم تسأل نفسها: من أين أتت كلّ هذه العصافير في صباح هواؤه قليل؟ أهي عصافير لأطفال غابوا وحملوا معهم سرّ الحياة قبل أن يفقدوه؟ وهي طالما اقتنعت بفكرتها هذه. فكرت في أن الأطفال يمتلكون السرّ، سرّ العيش الذي يفقده الإنسان ما إن يخرج من طفولته. وعندها فقط، عند خروجه من الطفولة، يبدأ بالبحث عنه. في صباحها هذا، صباح وجدته ولم تجد مكانها فيه، لم يكن ممكناً أن تتخلّص من صور الأطفال الذين دفعوا الأثمان، أثمان ماذا؟ ما الذي يريده الوحوش بعد؟
تجلس بين ورودها. لم يتسلّل الهواء إليها بعد، وتسأل: لمَ تنام كل هذه السيارات هنا في المساحة المخصّصة لظلّ آخر شجرة في الشارع؟ تتأمل الشجرة البنفسجية والعصافير التي تبدو نقاطاً بعيدة، وغسّالة جارتها الجديدة التي تلمع من خلف جارها النائم في سريره. الطريق نظيفة ووديعة، والبحر يلوّح لها من خلف أبراج قبيحة حجبته عنها، وتركت لها منه فقط قطعة صغيرة. نوافذ البيوت وأبواب الشرفات مفتوحة لهواء الربيع الذي يغيب عنها حين تعجز عن طرد الصور من ذاكرتها.
الجيران وجيرانهم ينتظرون مثلها نسمات الهواء، وهي تريد أن تلتقط اللحظات الصباحية هذه، أن تحتفظ بها وتقاوم عبرها فكرة الهجرة التي اقتحمت أيامها. تريد أن تهاجر إلى حيث لم يعد الدم شراب مَن قرروا أنهم أبطال خارقون، إلى حيث تعلّم الإنسان أن يصبح إنساناً، وفهم الدرس وعلى الأقلّ حاول أن يفهمه، إلى حيث لا يطفئ أحد سرّ الحياة في عيون الأطفال.
تريد، بسذاجة تدركها، أن تولد من جديد. ومَن يولد مرتين؟ تسأل نفسها. ستلد نفسها بنفسها وستنتبه إلى حياتها وتحافظ عليها. وستهاجر كي لا يتحكّم أحد بحياتها أو يعتبرها رخيصة وكي لا تضطر لأن تقتل نفسها مئة مرة في اليوم كي تعيش.
من الشرفة ترى الخارج ولا تلمسه. رأت علماً يرفرف بين أنقاض البيوت المهدّمة والمطحونة بفخر لترتفع فوق ذكراها أبنية قطّاع الطرق. رأت العلم وابتسمت. ما هذا الصباح الغريب؟ عصافير وعلم وغيوم على شكل قلبها الذي أغلقتْه أمام كلّ محاولات الحنين وحسمت أمرها. تعرف أن العالم ضيّق، لكنها لا تريد أن تفقد العالم أيضاً. لا بد أن مكانها الذي فقدته ينتظرها هناك، في مكان ما، حيث ادعاء الإنسانية لم يُسقط الأقنعة بعد.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024