تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

معركة

تعرف ما ينتظرها. سيكون الدخول إلى الغرفة المعتمة استكمالاً لمسلسل العذاب الذي يبدأ مع وصولها إلى المستشفى. أينما وجدت نفسها يتبعها الصقيع.
قبل العتمة تحشر نفسها في زاوية، وتلصق نفسها بالكرسي الأخضر. لون الجدار غبيّ، وهي تفكر في غباء اللون الحائر بين الأزرق والأخضر. تتذكّر أنها دوماً قبل أن تأتي إلى هنا، تنسى أن تحمل معها كتاباً أو مجلة.
لا يمكن أن تلتفت إلى الشاشة المعلّقة قبالة مكتب السكرتيرات والممرضات. وهي تقصد أن تجلس في تلك الزاوية بالذات كي تهرب من التلفزيون.

ترفع رأسها بحثاً عن ابتسامة. لا تبتسم الممرضات. الطبيب المشغول كل لحظة باكتشاف السائرات نحو نفق النهاية، يحاول أن يبدو أكثر تماسكاً مصطنعاً اللطافة. يحاول ويفشل. وهو أيضاً، مثل لون الحائط، يوحي بشيء من الغباء. رفعت رأسها ولاحظت عيوناً قلقة كعينيها، هي عيون نساء مثلها تنتظرهنّ عتمةُ غرفة الصقيع.
ابتسمتْ. أرادتْ أن تضحك، لكنها اكتفت بابتسامة. قاومت رغبتَها الشريرة في الضحك على قلقها وقلقهن. كان لا بد من كلمات تُقال ليتبدّد هذا الشعور الطازج والحيّ بـ«عبثية» العيش. لم تقل شيئاً، حدّقت إلى المرأة المحجّبة التي تقرأ كتاباً بالانكليزية، تقرأ بقلق، تقرأ كي لا يضيع الوقت. لكلّ منهنّ قصص ما زالت في بداياتها، لمَن يتركنها؟ تلك فكرة لا تفارق اللواتي يدخلن الغرفة وإن كنّ جاهزات لأن يضعن خلفهن ما يعتبرنه مجرّد إجراء روتيني. حلّت رغبتها في الكلام محلّ رغبتها في الضحك، فتكلّمت. كلمات قليلة نطقت بها أدّت دور الجسر الذي وصلت عبره إلى الأخريات.
فتحت كلماتها نافذة على الحياة العادية، الحياة في الخارج حيث البرد أقلّ وحشية والروائح أكثر دفئاً. لكن الكلام على زحمة السير والطقس جرّ الكلام على الوقت والانتظار، كأن كلمة السرّ كُشفت ليحين وقت البوح. ولكلّ منهن ملحمتها مع المرض نفسه. كلّ منهن عرفت مرارة المفاجأة. عرفتْها هنا على بُعد خطوات، هنا في الداخل حيث العتمة لئيمة والبرد وقح. وهؤلاء تغلّبن على المرض في الجولة الأولى، خضن حروباً مع أجسامهن، الجسم يقاتل نفسه من أجل التمسّك بالحياة.
وهي ما زالت معلّقة بخيط رفيع، لم تتأكد بعد من مكانها في المعركة. تَراهنّ لا ينظرن إلى منطقة الخطر في أجسامهن، ربما خوفاً منها، وهي أيضاً تخاف من جسمها على جسمها. ينادونها لتدخل غرفة الصقيع، نداء يفاقم شعورها بالضعف. تستمع إلى قصّة إحداهنّ عن قوة الإرادة ودورها في مقاومة المرض. ترفع رأسها وتدخل إلى حيث البرد سلاح من أسلحة العدو، المرض النابت في ثديها.

لقد ارتاحت لقصص الأخريات اللواتي علّقن أقنعتهن على الشاشة فوق رأسها وتكلّمن. الحكي عن لحظات الضعف يجعل الكلام بوحاً بالأسرار. لقد حملت كلماتهن إلى غرفة الاستشكاف، ودخلت مستعدّة للمعركة. فتحت عينيها للعتمة وأغمضت قلبها للبرد ودخلت.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077