كذبة
حلمتُ بنصٍّ كامل. حلمتُ بكلمات عجّلتُ في لفظها خلال نومي، وقد رأيتها بعينيّ المغمضتين مكتوبةً بوضوح ولفظتها سريعاً كي لا أنساها. دخلت الحروف إلى نومي، لم تتسلّل إليه بل اقتحمته واحتلّته. وحين تزور الكلمات نومي أو تجتاحه أكون سعيدة، نائمة ومستسلمة لما أعتبره لعبة بين عقلي والكلمات، وهي لعبة تسلّيني وتغيظني في الوقت نفسه.
فبَيْن النوم والصحو أظنّني حفظت الكلمات وتمسّكت بالحروف وحملتها بأصابعي وقبّلتها برقّة أيضاً، لكن الصحو ينسيني كلماتي هذه، ينسيني كل شيء ويذكّرني بما عذّبني قبل بداية النوم: التلفزيون والجرائد وكتب التاريخ.
الأحداث التاريخية تتسابق، ونحن ننتظر أن تمرّ الأيام لنفهم ما حدث وما يحدث. هذا الضياع لا ينزاح عنّي، ضياع في عقلي وقلبي وفي محاولات تنظيم حياتي التي لا أعيش إلا بها. ألجأ إلى كتب التاريخ لأفهم، ولا أفهم بل يتضخّم ضياعي. تويتر وفايسبوك وإيميلات الأصدقاء لم تشرح لي أيضاً ما هي الحقيقة. كلّما تفرّجت على التلفزيون ازداد ضياعي.
وكلّما قرأت كتب التاريخ وصحف الحاضر ازداد جهلي. وأنا لا أطالب بالحقائق كلّها، أريد حقيقة صغرى أو نصف حقيقة. لكن حين تقدَّم إلينا حقائق «صُنعت في أميركا»، حقائق هوليوودية بامتياز، أقرّر أن الحقيقة وهم، وكذبة كبرى.
أستسلم للمشهد يتبعه مشهد آخر، لقهر يمهّد لقهر آخر. تخليّت عن الأريكة، فالشاشة تقابلها وتحيط بها كتب حياتَيْن، كتب لم تقدّم إلينا من الحقيقة ظلالها. تخرجني الشاشة من الغرفة، تطردني من البيت، وهناك أيضاً كابوس لا ينتهي يطاردني ويتآمر عليّ.
الكابوس
منذ أعوام طفولتي في بيروت، أسمع عن راعي بقر طويل القامة يتحكّم بأيامنا مع زميل له راعي بقر آخر بربطة عنق ولكنة. أبشع المعارك التي شهدها شارعنا البيروتي كانت مسرحيات أمر بعرضها راعيا البقر، وكان أبطالها شباب أهدى العديد منهم حيواتهم إلى الراعيَيْن. الراعي الأول يليق به اللقب أكثر خصوصاً أن زميله مستعدّ لسرقة الألقاب كلّها، بينما هو يحبّ مظهر راعي البقر ويختاره في طلّاته المختلفة.
في منتصف التسعينات، بعدما قيل إن الحرب انتهت نضج الكابوس أو راعي البقر الأول، وترقّى إلى مرتبة مثقّف يهتمّ بالكتب والعمارة أيضاً، وبمصير ما تبقّى من «مبان تراثية» في المدينة العجيبة (عبارة «المباني التراثية» أصبحت مضحكة في بيروت).
راعي البقر المثقّف قرّر أن يصبح مقاولاً. وبعدما التصقت أصوات معارك «صبيانه» بذاكرتي منذ أيام الطفولة، تنخر رأسي أصوات المعدّات التي أمر بأن تهدّ بنايتين في شارع أعيش فيه. الكابوس يطاردني.
كابوس يكبر من دون أن ينمو فيه خوف من النهاية. كيف ينام رعاة البقر الكوابيسُ بلا كوابيس تطاردهم؟ رعاة البقر المثقّفون نماذج لبنانية فريدة لا تتعب ولا تتقاعد ولا تمنحنا إجازات من المتاجرة بأعصابنا.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024