تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الطريق إلى فوق

تضع السيدة العجوز الماكياج، ثم تجلس إلى مكتبها. تكتب بيد وتمسك وجهها القديم بأصابع يدها الأخرى، ومثل فتاة تنتظر مراهقتها، ترسم القلوب على ورقة شفافة. وبعد القلوب ترسم خطوطاً تشبه طرقاً وطرقاً تشبه متاهات، وتحبّ. تقول إنها ما زالت تحبّ. «تحبين مَن؟» سألتُها. فقالت إنها تحبّ زوجها الأول. «ولمَ تزوجت الثاني؟».

«لأنه كان قبالتي. وجدته في طريقي. الظروف كلّها أجبرتني على الزواج منه. هذا البيت أيضاً الذي أعيش فيه الآن أغراني بالارتباط به. أحببت البيت أكثر منه على كلّ حال. ولا أقول إنني كرهت زوجي الثاني، لكنه لم يعنِ لي أي شيء. كان رفيقاً مزعجاً أحياناً، صامتاً أحياناً أخرى. ثم فقدته. وبقي لي البيت، واللوحات والمرايا. لكنني تخلّصت من المرايا واحتفظت باللوحات التي سعدت بها.
فأنا أحب الرسم منذ صغري، منذ كنت في القرية مع والدي وزوجته وإخوتي الخمسة...» تصمت قليلاً ثم تضيف: «كنت وما زلت جميلة». تتكلّم على نفسها كأنها تتكلّم على امرأة أخرى أو على ممثلة سينمائية مشهورة. «خطفني زوجي الأول. لم يصدّق أبي أن «ابن العائلة» يريد الزواج بي. كان سعيداً جداً بارتباطنا.
لكنني أقول إن سعيد زوجي الأول خطفني، لأنه حملني إلى بيروت، إلى حياة مختلفة تماماً عن حياتي القروية البسيطة، إلى الاجتماع بالأصدقاء وتنظيم الحفلات والاحتفال بالكتب والرسم والألوان، إلى الطائرة لاحقاً والسفر. ثم انطفأ فجأة، وانطفأت حياتي الجديدة، أصبحت فجأة حياة ماضية. وواجهت من أهله حرباً شرسة. تركت كل شيء، البيت والصور والأصحاب الذين تركوني بدورهم. هي قصة طويلة وقديمة، تابعت تفاصيلها في أكثر من فيلم عربي، فلمَ تريدين أن أحكيها؟».

«لأنها قصّتك أنتِ». لم تجبني، لم تردّ، توقفت عن الكلام. وعادت إلى المرآة حيث تقرأ تجاعيد وجهها، تقرأ الخطوط العميقة الرفيعة كأنها تقرأ نصيبها في فنجان قهوة. 

السيدة العجوز تكذب عليّ أحياناً ولا تجيد الكذب، وسرعان ما أفهم من بعض كلامها أنه مفبرك وغير حقيقي.

وبعد الصمت تقرّر أننا يجب أن نذهب في نزهة سريعة. تمسك بذراعي ونمشي معاً في حديقة «اخترعناها» آخر الشارع. قررنا أنها حديقة، هما شجرتان حول موقف السيارات الجديد مع قليل من العشب النابت على الإسفلت. «وقحون» تقول. «مَن؟» أسأل. «الناس كلّهم. لا يخجلون من ثقتهم بأنفسهم والتي تسمح لهم بالظلم وارتكاب الخطايا والجرائم أيضاً».

في السيارة صفّفتْ شعرها الأبيض، رتّبت خصله في جديلة طويلة وتعطّرت بعدما أخرجت بتأنٍّ قارورة العطر من حقيبة يدها. أدير الراديو، وهي صامتة. أضحك على منظرها وهي تخرج رأسها من النافذة تماماً كما يفعل الأطفال. تنظر إلى فوق، وتمدّ ذراعها اليمنى إلى فوق كأنها تسعى إلى التمسّك بحبل غير مرئي. «الطريق إلى فوق قصيرة. وهناك أيضاً «قادومية» أو طريق «مختصرة» تقول باسمةً.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077