تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الثمن

ماض

أختار من الماضي ما أريد تذكّره. أصارح نفسي بذلك. لمَ لا؟ هل يجب أن أعذّب نفسي كل الوقت؟ ورغم محاولاتي الجدية للضياع في أحداث اليوم الذي أعيشه، إلا أن الماضي يتسلّل إليّ أحياناً. أجد نفسي فجأة في مواجهته.
ثم أجد نفسي فجأة في انتظاره. لكن من أين تأتيني تلك الإشارات؟ من الفايسبوك الذي جعلنا نتعثّّر بوجوه فقدناها مع الوقت أو قررنا أن نفقدها أو هي قررت أن تفقدنا. تأتيني إشارات من ماض بعيد، من أحلامي أيضاً التي سكنتْها في المدة الأخيرة وجوه قديمة. وصلتني في الحلم رسالة واضحة من أحد أشباح الماضي. وصلتني الكلمات واضحة موجعة. لكن يجب أن أعترف أيضاً بأن ثمة دغدغة لذيذة ترافق وجع الكلمات الواضحة الحادة التي عادت إلى الحياة من ماض لم يمت تماماً. والماضي لا يموت، يرتدي زيّ الحاضر، فنصدّقه، بغباء صاف نصدّقه، ونمضي نحو النهاية.


مجهول

أسمع أصواتهن، منذ أيام أسمع أصواتهن، هن صحافيات من العراق جئن إلى بيروت متحمّسات لسرد قصصهن، وقد سردنها، فاستمعنا إليهن وصدّقنا ما في العادة نكتفي بتخيّله ثم نمحوه سريعاً من تفاصيل بؤسنا العربي. فنحن نقرأ عن الرعب العراقي، ونرغب في ألا نصدّق ما نقرأه. ثم نحوّل هذه الرغبة حقيقة لنرتاح، لنتناسى ما قرأناه ونرتاح. لكن لا يمكن الهروب من القصص المسرودة بأصوات بطلاتها أو الشاهدات عليها. استمعنا إلى القصص وأسمائها وصدّقنا. لقد عشنا العنف في لبنان، نعرفه جيداً ويمكن أن نتخيّله ونعيد بناء تجاربنا معه في ذاكرات تألّمت منه وحَفَر فيها مشاهده الأبشع. لكن العنف الذي تشهده المدن العراقية أشرس من أكثر الأفلام دموية.

دُعيت مع زميلات للتحدّث عن تجاربنا الإعلامية حول طاولة مستديرة نُظمت في الجامعة اللبنانية الأميركية ضمن حلقة دراسية حول المرأة والإعلام، لكنني مع زميلاتي وجدنا أنفسنا نستمع بدهشة، وربما خوف، إلى قصص زميلاتنا العراقيات عن إعلاميات دفعن أعمارهن لحاقد «مجهول» لأنهن اخترن الاستمرار في تغطية أخبار القتل في مناطقهن. لم يكن واضحاً تماماً الكلام على صعوبة التعرّف إلى هوية من اختاروا أن يحاسبوا الصحافيات و«يعاقبوهن» بالقتل. لا نحتاج إلى قول إن العيش ضمن دائرة العنف اليومي صعب وقاس وموجع، لكن أن يصعب تحديد الأعداء، وأن يكون الأعداء مجهولين وتكون أهدافهم مجرّد التخريب والترهيب، كل هذا يأسر المواطن على اختلاف انتماءاته وهوياته في كابوس.

أي نظريات يمكن تقديمها لزميلات صحافيات، هن أيضاً أمهات وأخوات وزوجات وصاحبات أدوار اجتماعية أخرى، يحاولن السخرية من الموت؟ لم يكن ثمة مجال للفلسفة، لا مجال للتعليق أو لشرح ردات الفعل الممكنة تجاه مواقف يتعرّضن لها وتهدّد حيواتهن. كلّنا يطاردنا الموت، لكن عناوينه عديدة في العراق ومنازله كثيرة.

كان مقرراً أن يسألنَنا نحن ضيفات الطاولة المستديرة عن موضوعات متعلّقة بتجاربنا في الصحافة، لكننا قلبنا الأدوار وبدا بديهياً أن نبدأ نحن بالأسئلة: هل تستأهل المهنة أن يرمين أعمارهن لها؟ هذا السؤال يحتمل نقاشاً مفتوحاً، وقد تستلزم الإجابة عنه شروحاً أدبية لمعاني التضحية والواجب والبطولة والتهوّر أيضاً. والثمن، لقاء خسارة الحياة، ليس دوماً مغرياً. الثمن هو البطل في هذه المعادلة.

لكلّ منهن قصّتها مع التحدي. منى غادرت منزلها وحيّها إلى منطقة أكثر أمناً بعدما تلقّت تهديدات هاتفية من أشخاص مجهولين دفعت لهم مبلغاً كبيراً من المال ليسمحوا لها بالاحتفاظ بحياتها. ومريم أدلت برأي اعتُبر جريئاً في مناسبة عامة، واعتُبر إدانة لمَن لم تستطع أن تسمّيهم «إرهابيين»، فكان عليها أن تلازم البيت خلال ثلاثة أشهر خوفاً من انتقام «مجهول». أما منال، فشُرّدت مع عائلتها بسبب انتمائها الديني. قصص جعلتنا للحظات نفكر في أن صمود زميلاتنا في بلدهن ضرب من البطولة والجنون.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077