تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ما وراء الصورة والخبر


أريد ألا أعرف أي شيء. كيف أوقف غزو المعلومات كل ّ لحظة من لحظات يومي؟ أريد أن أحافظ على جهلي اليوم، أن أدلّله وأسعد به. ثم يصلني الخبر، ولا يصلني ما وراءه. مات عشرة، عشرون، خمسون، مئة. مات مَن مات.
نتحدّث دوماً عن أثمان باهظة لتحرّر إنسانيتنا، لكن لمَ هنا فقط يموت الإنسان ليصبح إنساناً؟ لا أذكر متى، وأنا أكبر، طرحت للمرة الأولى سؤالاً يشبه سؤالي هذا؟ لكنني واثقة بأن هذا السؤال بالذات نبت فيّ بعد سؤال: لماذا ولدتُ في لبنان حيث الحرب تطحن كل شيء؟ وكي يجيبوني عن السؤال الأول، دلّوني على الاستعمار وعلى كتابات فرانتز فانون.
وما بعد الاستعمار لماذا ولّد أنظمة تزرع الموت وتدوس الحياة فينا؟ الديمقراطية كذبة كبيرة في هذا الجزء من العالم حيث تأثير الاستعمار حقيقي جداً، هو الحقيقة التي لا يتوقف تأثيرها في عوالمنا.

كيف نهرب من مشاهدة الموت؟ كيف نهرب من التاريخ؟ كيف يمكن الآن أن نقتحم فقط اللحظة الراهنة؟ هي لحظة واحدة ننفصل بها عن كلّ ما يجري حولنا، هي لحظة الأسى الكلّي، وجع صاف أمام صورة واضحة بالرغم من ضياع تفاصيلها. 
وحين نصحو من تلك اللحظة يكون علينا أن نقرأ كل شيء ونعرف كل شيء لنحاول أن نفهم خريطة عالم عربي يطفو على أحزانه وعلى بقعة من الأمل. ما كان يمكن ألا يحدث ما حدث وما يحدث الآن. ولا بد من الخوف والوجع، فلنقبل بالأثمان، المهم أن الانفجار حصل وأنه فاجأ مَن فاجأ.

هؤلاء الذين تحدثوا ويتحدّثون عن مؤامرات خارجية لا يؤمنون بأننا شعوب قادرة على الانفعال والتفكير والتحليل والتخطيط والإحساس والاعتراف بضرورة استعادة كرامتنا الإنسانية أو بناء هذه الكرامة. أما مَن يدّعون أنهم صنّاع الكرامة الإنسانية وحرّاسها، فقد دعموا سَرَقَة الكرامات على رؤوس أنظمتهم.
ما عدنا نشهق ونستغرب ونستنكر، نصدّق ما نراه ونقرأه. نقول إنه لا يصدّق لكننا نصدّقه. لم يعد أي مشهد عجيباً الآن حتى لو كان مركّباً، مفبركاً، مصنّعاً. تختلط المصائب في العقل الواحد، ما الذي تستطيع هذه الذاكرة أن تحمله؟
الماضي البعيد مخيف، والماضي الأقل بعداً مخيف أكثر. الكذب القديم أصبح كذباً أكثر تطوراً، ابحثوا عن الماضي لتفهموا الحاضر، قالوا. لكن الماضي لا يُفهم دوماً، ليس ماضياً واحداً على كلّ حال، والحاضر لا يُفهم. ليس حاضراً واحداً.

وإذا لم نصدّق ما نقرأه ونراه، نصدّق أنه يمكن أن يحصل، كل شيء يمكن أن يحصل، أي شيء يمكن أن يحصل. لكننا نرسم علامات الشك حول ما عرفناه وما نعرفه. الشك بالمعلومات التي تصل إلينا، الشك بالأمل الذي فتحنا له قلوبنا ومخيّلاتنا.

أفكّك أحاسيس تصيبني مع مَن مثلي خلال اليوم الواحد. أعود إلى الفرحة في مصر، ثم الخوف من الخيبة أو الخيبة نفسها بعد استعادة الثقة بالنفس، وهي أصعب من الخيبة الموروثة، وما يحصل في ليبيا حيث وحش الموت لا يشبع، وما يحصل في اليمن، وإلى الإحباط اللبناني المستمرّ، حيث الاستغباء أوصلنا إلى مرحلة تجاوزت القرف. 36 عاماً مرّت على نيسان 1975، ذكرى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وما تغيّر النظام ولا تغيّر رموزه. يعرفون أننا نعرف كذبهم ولا يبالون. امتلكوا كراسيهم كأنهم ولدوا ملتصقين بها، هم طغاة صغار يحميهم سلاح ضخم هو سلاح الطائفية ومؤسساتهم وأحزابهم وميليشياتهم. كشفناهم وسقطت الأقنعة، من قبل أن يشيخ أهلنا سقطت الأقنعة.
ليست هذه الكلمات يائسة، إنها فقط محاولات لتشريح لحظة الوجع اليومية أمام مشاهد يحوم حولها الموت.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077