مطاردة
كتبتْ أ.س كل ما عرفتْه في حياتها في رواية وحيدة منحتْها شهرتها التي بدأت تسكن. روايةٌ واحدة حمّلتها كلامَها كلَّه قبل أن تصمت. فجأة أصبحت قليلة الكلام كأنها تكلّمت فقط كي تكتبَ الرواية.
في شارع «الصاغة» الجديد رأيتُها مع زميلي طويل القامة والذي أخاف منه حين لا يبتسم. بدت شديدة الرقّة إلى جانبه، ناعمة كأنها لم تصرخ بي ولم تمنعني من الاتصال بها، وكأنها لم ترفض لقائي أكثر من سبع مرات. أفكر فيها دوماً. اليوم فقط لم أتخيّل نفسي أمامها أسألها أسئلتي كلّها. لكنني رأيتها اليوم تحديداً مع زميلي الذي قلّما يبتسم ويبدو اليوم مختلفاً.
ربما غيّرتْه رفقتها. فارتخت قسمات وجهه وأصابه هدوء لا يعرفه في الأيام العادية. وقفتُ أمامها، ولم أستغلّ الموقف، لم أصرخ بها أو أعاتبها أو أشتمها. تصرّفت معها كأنني أتعرّف إليها للمرة الأولى.
منذ قرأتُ روايتها بدأتُ مطاردتها. وأردت أن أواجهها، أن أسألها: كيف تعرفينني ولا أعرفك ولمَ اخترت اسمي وحياتي لتكتبي عنهما؟
أنتظر أن أقرأ لها رواية أخرى أو قصة قصيرة أو حواراً أو حتى جملة واحدة في مجلة أو صحيفة. لكنها صامتة صمتاً عجيباً. وقد بحثتُ عنها في بيروت ولم أجدها، وفي دبي أيضاً.
سألت عنها حارس البناية البيروتية، التي تسكن فيها، فقال إنها تفضّل العيش في أوروبا. لحقتها إلى باريس فقط كي أسألها عن الشبه المريب بين حياة بطلتها وحياتي. حتى عندما وصفتْ وجه بطلتها وحركات جسمها أحسستُ بأنها تصفني. طرت إلى باريس لرؤيتها. حملت معي الرواية التي كلّما عدتُ إليها ازداد فضولي وحماستي لرؤية كاتبتها. لكنها هربت مني، وما ان أحست بوجودي حولها حتى اختفت. وصرت كأنني أطاردها. ثم رجوتها، حين نجحت في الاتصال بها، أن تقبل بأن نلتقي. أمضيتُ أياماً وحدي في باريس أخطط للقائها الذي لم يتمّ. طلبتُ منها أن نتحدّث خلال نصف ساعة فقط، لأخبرها عن الشبه بيني وبين بطلتها ولأعرف ما يمكن أن تكتبه الآن عنها.
لكنها كرهتني قبل أن تراني، ربما كي لا ترى أمامها المرأة التي سُرقت من مخيّلتها. حاولت أن أشرح لها قصة هوسي بها وأنني لا أكفّ عن استغراب الشبه بيني وبين بطلتها التي سرقت اسمي أيضاً.
وتسلّيت بمطاردتها. كانت تغيّر نظاراتها دون أن يتغيّر شكلها العريض أو يتقلّص حجمها الذي يخفي نصف وجهها. أزياؤها غريبة ينسجم لونها مع لون النظارات ومع لون شعرها المتغيّر دوماً. العقد الفضي العريض الذي لا تستغني عنه أحلم به أحياناً خلال نومي، يلتفّ فجأة حول رقبتي، فأصحو مذعورة. فشلت في مطاردتها وفي الوصول إليها حتى عدت إلى بيروت ولم يتسنَّ لي الكلام معها.
وكنت اليوم أمشي نحو سيارتي المركونة في شارع ينحدر نحو مبنى الشركة التي أعمل فيها حين رأيتها مع زميلي. كانت صامتة جداً. حاولت أن تبتسم، وربما نجحت نصف ابتسامة في أن تحرّك شفتيها.
سلّمتُ عليهما بحرارة وادّعيت الاهتمام بأخبار زميلي والطقس وبآلام الظهر خلال ساعات الدوام خصوصاً. لم تعرفني هذه المرة أيضاً، كتبتْ حياتي واستخدمت اسمي ولن تعرفني.
ودّعتهما ومشيت. على الأقل أعرف الآن أنها في بيروت وأنها لن تفلت مني هذه المرة.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024