تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

يوم الأحد 20 آذار

نثروا الأرز من شرفاتهم. رفعنا رؤوسنا نحوهم، نساء في قمصان النوم ورجال يحملون عدّة تحضير طعام يوم الأحد، يفتحون عيونهم وأفواههم من الدهشة. 'يللي واقف على البلكون (الشرفة) انزال ولاقي شعبك هون'. نادى أهل المظاهرة. والسيدة التي تصرخ في مقدمة إحدى المجموعات (التي نُظّمت بعفوية) ضمن المظاهرة يحمرّ وجهها وتنفر الشرايين في جبينها، تقفز ويعلو صوتها ويخفّ مع تصاعد حماستها.

مشيت مع أمهات يمسكن بعربات أطفالهن وبلوحات كرتونية تتحدّث عن رغبتهن في أن يكبر الأولاد في وطن قادر على حضنهم. ووقفت أتفرّج على مجموعة من رجال ونساء ستينيين ينتمون إلى جيل حاول التغيير ولم يستطع بل يحمّل بعض أبنائه أنفسهم مسؤولية العجز عن منع وقوع الحرب، هو أيضاً جيل الهزائم والنكسات، هؤلاء كانوا يصرخون بإصرار: الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي. وهي الجملة السحرية التي يتحمّس الجميع لتردادها ببساطتها وموسيقاها ودلالتها.   
صرخوا حتى اختفت أصواتهم. 'لماذا لا تستعملون مكبّرات الصوت؟' سألنا بعض الشبان. 'لأننا نملك ثمانية فقط، وزعناها على الشباب'. هذه المظاهرة 'نزيهة' لا تدعمها لوحات إعلانية مستفزّة في استخفافها بعقول الناس ولا شركات تسويق وترويج وتنظيم حملات غبية. هي المظاهرة الثالثة ضمن سلسلة مظاهرات تطالب بإسقاط النظام الطائفي في لبنان.

جميل الإحساس الذي يحرّكنا على أرض المظاهرة، يقودنا وحده إلى الالتحاق بالجموع ودعم الشعارات التي تقذفها الحناجر: 'علمانية لبنانية ضد رموز الطائفية'. يقودنا إحساس غريب جديد قبل أن نفكر في أي أمر آخر يعكّر جمال جدّة هذا الإحساس وغرابته. جميل أن تلمس حقيقة أن ثمة مَن تتشارك معه في حياد ضروري وأساسي، حياد واضح وصارخ وحاسم، بين فريقين لا يمثلانك لكنهما يقبضان عليك ويرميانك في سجن طائفتك.
للوهلة الأولى بكيت، 'فولكلور'، فلتكن المظاهرة 'فولكلوراً' لمَن يقولون إنها ما زالت في مرحلة الاحتفالات وإن المتظاهرين لا يستطيعون تحديد العلمنة أو تعريفها، وما قرأوا كلّّهم الدستور. ما يعرفه المتظاهرون جيداً هو حقّهم في التخلّص من 'الزبائنية' ومن الانضواء تحت زعامة الزعيم من أجل تأمين الوظيفة. وما يفهمونه أيضاً هو أنهم يطالبون بالعدالة الاجتماعية، بالمساواة في الحقوق بين جميع المواطنين.

لم يمنعنا كلام المشكّكين وإدراكنا أن للفريقين الشهيرين جمهورين 'مؤمنين بهما' ومعرفة أن مندسّين يلتصقون بأصحاب النيات الصادقة، من تقدير اللحظات على أرض المظاهرة خصوصاً أن أعداد المشاركين تتزايد، وقد رأيت بين الجموع زملاء قدامى وأصدقاء سابقين. وأحسست شخصياً براحة عجيبة حين تصاعدت الأصوات صارخة ضد أمراء الحرب والسارقين الذين يحاول بعضهم الآن سرقة إنجازات الشباب منظّمي المظاهرات. الوقاحة مرة أخرى، ومَن غير الوقح يستطيع أن يصمد في وجه التيارات المختلفة وأن يكون محارباً في الحرب ورجل دولة وجزءاً من النظام السياسي في ما يشبه السلم؟
أعداد الحالمين كبيرة، وهم عادوا لا يكتفون بالحلم، نعلم بأنهم يحاولون تنظيم أنفسهم ومطالبهم. لن نهرب من الأمل، لن نتركه خلفنا، سنتبعه.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077