تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ابن أمّه

قبل ثلاثة أيام من اليوم الأخير، عاد إليه خوف لم يعرفه منذ أيام طفولته. سترحل، سيفقدها إلى الأبد. لقد عاد من غربته كي يشهد على الأوقات القاسية. وبالرغم من غيابها الطويل في سرير وهنها الجسدي واختفاء الحياة كلّها من عقلها، وبالرغم من نومها الطويل، إلا أنّها موجودة وتتنفّس، وهو يزورها ويتكلّم معها ويحكي لها ما لم يحكه من قبل. وقد أصبح لا يخفي عنها أي شيء، بل كشف لها أكاذيبه الصغرى كلّها التي اضطر إليها فقط كي لا تغضب منه، وذكّرها بأنها كانت سريعة الغضب ومستبدة أيضاً.
يضحك ثم يصمت ثم يبتسم، كلّ هذا في «حضرة غيابها». لقد أصابها المرض الذي خافت منه، «يا خوفي أن يصيبني ما أصاب أمي»، كانت تقول. وقد أصابها مرض النسيان اللعين. فكّر هو في أنها أصبحت خفيفة وجديدة.
لقد ولدت من جديد قبل أن تسلّم حياتها، قبل أن تسلّم الوديعة. وهو لم يتركه الخوف خلال ساعاتها الأخيرة، خوف خانق يسبق اللحظة الحاسمة.

ثم انطفأت، واكتمل غيابها. لم يقل لأحد سواي إنه بعد الصدمة أحسّ بشيء يشبه الراحة. وكان عندها، كان قريباً منها، لم يتصلوا به لينقلوا إليه الخبر. كان عندها، ولم يعرف كيف يواجه المفاجأة، فهو لم يكن يتوقع أن تفاجئه الحقيقة لأنه يعرف تماماً مثلما يعرف كل بشري أن هذه الحقيقة بالذات لا يمكن الهروب منها. وقد تخيّل هذه اللحظات عشرات المرات في الأيام الأخيرة، لكن لا أحد يمكن أن يحصّن نفسه في مواجهة الغياب.

خلال ساعات وجد نفسه بين أفراد القبيلة. مَن هم هؤلاء؟ ولماذا يتسايرون هكذا؟ الآن يريد شقته في المنفى، وقهوته الأميركية، والصمت الذي لأجله فضّل الوحدة حتى قبل أن يخسر حبيبته. لكنّه لن يخذل الغائبة مرة أخرى. فانضمّ إلى أفراد عائلته لإتمام الواجبات كلّها. وكان حاضراً كلّ لحظة، مطيعاً مسايراً ثرثاراً أحياناً، يخوض مع المعزين في كل أنواع الأحاديث، فيتفق مع بعضهم على أنه يجب أن يتزوج، ويحاول أن يشرح لأحدهم أنه وإن كان يعيش في الولايات المتحدة إلا أنه لا يتابع خطب أوباما كلّها. لم يخذلها، فلم يهرب إلى غرفة يقفل بابها على حزنه. لا، تخطّى عقدته من الواجبات الاجتماعية، وحاول أن يكون مثلما طالما أرادته أن يكون: «ابن أمه». 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077