مجنون تنقصه جرأة المجانين
لوحة سوريالية، في داخل السيارة القديمة رجل يحمل مظلّة. لا بد أن سلفادور دالي قد تخيّل مشهداً كهذا. وثمة دوماً بناء مهدّم خلف صاحب الرأس المهدّم. يكفي أن شعباً تهدّم بسبب الرجل. كيف ولماذا؟ تبدأ بهما الأسئلة. كيف بقي الرجل المجنون بوضوح متحكّماً بمصائر ستة ملايين من أبناء شعبه؟ ولمَ تأخرنا لندرك أننا لا نعرف أي شيء عن ليبيا، وهو ما سبق أن كتبه الشاعر عباس بيضون في مقالة بعنوان «كل شيء غامض في ليبيا». العالم الذي ألهته مشاهد الزعيم السوريالية خلال عقود لم يلتفت بجدّية لما يفعله الرجل المختلّ ببلده. لقد أبعد الرجل البلد عن خرائط بلاد العالم في عقولنا، انشغلنا بالتعليق على قطع الأقمشة التي يلفّ بها نفسه وبخطاباته الطويلة في الأمم المتحدة والتي لا يقول فيها أي شيء، وبصفقاته المجنونة وخيمته والخرقة الخضراء التي لفّ بها تاريخ بلده ليخطفه.
مشهد سوريالي يليه مشهد سوريالي آخر تتساقط خلاله كلمات الرجل المريض بغياب المنطق، الرجل الذي قال إنه «المجد بعينه وإنه ينتظر سحق الجرذان والفئران والمقمّلين والمهلوسين». الكلمات التي لا يربط بينها أي منطق أو معنى أدّت دوراً واحداً، أفهمتنا أن المجنون، الذي تنقصه جرأة المجانين، يدافع عن رقبته بالأمر بارتكاب الجرائم الوحشية و«تطهير» ليبيا من الشعب الليبي.
لا نعرف عن ليبيا أموراً كثيرة ولا نعرف عن اليمن إلا القليل، الآن انتبهنا إلى جهلنا. يكفينا جهلنا الداخلي، وتأخّرنا عن إنقاذ إنسانيتنا عبر إنقاذ بلادنا من أمراضنا وأهمها الطائفية في بلد مثل لبنان. التحرّر من الاستعمار الذي ترك البلدان العربية مشرذمة ومقسّمة، ولّد أنظمة «استعمرت» بدورها الشعوب العربية. كُتب الكثير عن أسباب غياب الديمقراطية في البلاد العربية، وحسمت نظريات أن الديمقراطية مستحيلة في هذه البلدان. وقد تأخرت الثورات لكنها انفجرت قوية في وجه الأنظمة القامعة والدول التي تدّعي دعم الديمقراطية في حين أنها غذّت الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي. انفجرت الثورات مفاجئة العالم كلّه، مسقطة في طريقها نظريات استحالة تحقيق الديمقراطية في البلاد العربية. الثورة هي الخطوة الأولى والأهم، والدارسون الذين ما زالوا حذرين في استعمال عبارات مثل «ولادة الديمقراطية» ينتظرون الانتخابات ليعلنوا أحكامهم على ما جرى، ويضاعف حذرهم تدخل الجيش في الثورتين التونسية والمصرية. المهم الآن هو أن تاريخاً عربياً جديداً يُكتب ونحن محظوظون بأن نشهده ونشهد عليه. لكن ما يوجع ويدمي القلوب والعقول هو أن الأثمان التي تدفع غالية جداً.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024