التذرّع باليأس
صحا يوم الأحد في التاسعة والربع على صوت الهاتف. ذكّره الشاب الأجنبي الذي اتصل به، بموعدهما. والمتّصل تلميذ في جامعة في فيينا ومهتمّ بما يحدث في الشرق الأوسط، ويريد أن يتعلّم العربية. كان قد وعده بأن يجيب عن أسئلته المتعلّقة بالوضع في لبنان حيث ينوي الشاب النمساوي أن يستقرّ لدراسة اللغة العربية والعلاقات الدولية. ولأنه شخص يلتزم بتنفيذ وعوده، لم يعرف كيف اغتسل ولبس ثيابه ووجد نفسه قبالة الشاب المتحمس لاكتشاف البلد، وجد نفسه أيضاً مضطراً للإجابة عن الأسئلة نفسها عن غياب أسس صحيحة للدولة بسبب النظام الطائفي.
هي الأسئلة نفسها التي يسألها الأجانب ليهزوا برؤوسهم ويعلنوا أن التنوّع في هذا البلد الصغير معقّد وليس غنياً. ورغم تعبه من الأسئلة نفسها رافق الشابَّ الأجنبيَّ وأصدقاءه إلى لقاء يعقد في الجامعة التي تخرّج منها لمناقشة الأسئلة نفسها حول الوضع في البلد. وجد نفسه في القاعة نفسها التي انطلق منها قبل 20 عاماً إلى الغربة. بحث بين الوجوه والأجسام الملتصقة بالمقاعد عن وجهين اثنين يذكر أنهما ودعاه يوم رحيله. وكلّما اقترب من المنصّة، فوجئ بوجوه لا يعرفها، ولم ينسَها ولا ادعى نسيانها لأنه فعلاً لم يعرفها.
المقاعد مركّبة في شكل دائري وملبّسة بالمخمل الأحمر، قاعة أنيقة، وهو فيها يبحث عن ماض بعيد كل البعد عن الأناقة. منذ عاد من أميركا قبل أقلّ من شهر، يسأل عن أصدقائه القدامى، لكنه لم يجد منهم أحداً. كلّهم هاجروا. وهو ينتظر بأن يلتقي مصادفة بأصدقاء أصدقائه في المتاجر الكبرى أو دور السينما أو المطاعم، لكن الوجوه كلّها غريبة تماماً بالنسبة إليه. لم يجد شاهداً واحداً على محاولاته البقاء في بلده متمسكاً بقليل من الأمل.
نعم هي محاولات بقيت في قلبه ولم يحاول أن يخرجها إلى قلب النقاش الذي أداره مع اثنين أو ثلاثة من أصدقاء الماضي. ما الذي يهمّه الآن في كل هذا؟ ما كان البقاء ممكناً والدليل على ذلك أن الأمور لم تتغيّر منذ غادر، والأشخاص المسؤولون عن قرفه قبل أن يغادر ما زالوا أنفسهم في مواقع السلطة، لم يتغيّروا.
ثم يقول لنفسه: ربما لأننا لم نحاول أن نغيّر، هربنا بدلاً من أن نغيّر، تركنا كلّ شيء وسافرنا. كان البلد مشتعلاً ولم يكن الزمن زمن بطولات من دون أثمان. يجب أن يسأل مَن لم يتزحزح من مكانه عمّا استطاع فعله وعمّا لم يفعله. هم أيضاً مسؤولون، من بقي مسؤول ومن غادر مسؤوليته أكبر. علّمته الأيام أن اليأس ذريعة العواجز. تأخر ليلوم نفسه على منفاه قبل أن يلوم بلده. تثبت له الأيام أن التغيير ليس مستحيلاً، ما يجب تغييره هو التذرّع باليأس.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024