'يأس أقلّ'
ما حدث قد حدث ولن يغيّره شيء. ما زال الأمل طاغياً على ذبذبات اليأس المزعجة، لكنه ليس اليأس الذي اعتدناه. هو يأس جديد أقلّ وطأة من ذاك الذي عرفناه قبل الياسمين والغضب. ليس لأن الأقوياء ما عادوا ينقضّون على التاريخ لمطاردته والتلاعب به بما بتناسب مع مصالحهم، بل لأن التاريخ لم يعد رهن الكلمات فقط. الكلمات تخدم الأقوياء، فتغيّر التاريخ أو تشوّهه أو تبدّله أو تكذّبه أقلامٌ تتبع مصالح أصحابها وأسيادهم. التاريخ الآن تكتبه صورٌ تنقل مباشرة ما يجري. وتستطيع عقولنا أن تحكم على الصور وحدها كي لا يقال إن الكلمات مأجورة أو "غوغائية" أو خائنة.
ما حدث قد حدث ولن يخطف أحد حقيقة أن المعجزة قد وقعت، وأن أصحاب الحقّ هبّوا للمطالبة بحقوقهم واسترداد إنسانيتهم التي جُرّدوا منها. ما حدث قد حدث ولن يجهضه أحد، يكفينا أن الشوارع احتفلت بأصوات المطالبين بالحقّ وعزائمهم ودعسات أقدامهم. فما حدث إنجاز ولد مكتملاً قبل أن يتسلّل إلينا "اليأس الخفيف" من ترجمته سياسياً عبر تحقيق المطالب على الأرض.
ما حدث قد حدث، فسقط شهداء، سقطوا أحراراً. ومَن عاش ويعيش في بلد مثل لبنان يتساءل دوماً عن معنى الموت في سبيل الوطن. يتساءل أصلاً عن معنى الوطن الضائع بين الحصص وملتهميها. ما حدث علّمنا أن الوطن هو الكرامة. وأرى، وهذا رأي شخصي جداً، أن الإنسان يتحدّى الموت للدفاع عن كرامته أكثر من كونه يدافع عن الأرض ورمزيتها. حدث ما حدث وتغيّرت أمور كثيرة. تَغَيّرنا. أصبحنا، بسبب الأمل المصري، أقوى وازدادت ثقتنا بأنفسنا وحقوقنا وعلاقتنا بالغد.
الأمور أشد وضوحاً الآن. أما ذبذبات اليأس التي تتسلّل إلى الأصدقاء، فهي ذبذبات يأس يجب أن يكون خفيفاً. وقد تعلّمنا في الأيام الماضية دروساً كثيرة، عن كذب الدول التي تدّعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان وحريته، وعن العميان المنفصلين عن الواقع، وعن مستوى الوعي لدى المطالبين بالحقّ وهم يفجّرون إبداعاتهم في ساحات الحرية ويحمون شوارعهم وأهلهم وينثرون لطافتهم وخفة دمهم اللتين تصلان إلينا، فنطرد اليأس بابتسامة.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024