'الشغف'
لا يمكن أن أنجح في الضحك عليهم كلّهم. أريد دائماً أن يتكلّم الذين يعرفونني عن ميزاتي، أن يقولوا إنني امرأة رائعة. صدّقت أبي العجوز الذي مات وهو يتحدّث عن ذكائي. صدّقتُه وكبرتُ وحدي. أردت دائماً أن يحبّني الجيران وزملائي حيثما كنت، في العمل الذي اضطررت إليه باكراً، أو في الجامعة. صفّقتُ لنفسي مرات كثيرة. وكلّما تعبت من التمثيل أبدأ من جديد. أرتاح. أغمض عينيّ وأقول إنني سأبدأ من جديد. أتخيّل أنني في قطار أبدأ رحلة جديدة. ثم لاحظت أنني لم أركب قطاراً واحداً في حياتي.
ودائماً حين أبدأ من جديد أتخيّل أنني أغسل وجهي، وأن الماء ينهمر عليه بقوة. هكذا أرتاح بالصور التي تعيش فيّ ولا يراها أحد ولا أخبر أحداً عنها. في بيتنا القديم بقيت وحدي. لم أسأل أمي يوماً لمَ اكتفت بي ولم تنجبْ غيري. حكت لي قصصاً كثيرة لم أكن أنتبه إليها. كنت سعيدة بوحدتي بينهما، أمي وأبي، وهما يبحثان عن راحتي كل لحظة. نسجتُ عالمي حولهما وعذّبتهما بمزاجيتي. «أوف، لا شيء يتغيّر»، أقول لوالدتي التي تكبرني بأربعين عاماً. فقدتهما باكراً وظللتُ وحدي. لا شيء يتغيّر، أفتح علبة الرسائل لأستقبل فراغها. الكومبيوتر تأخرت في التعرّف إليه. اشتريته بعدما تأكدت من أنهما تركاني فعلاً ولن يعودا. وظننتهما لن يموتا أبداً. أمي تعذبت وهي تتركني. تعرف أنني مدلّلة وأنني أقترب من الأربعين دون أن أعرف الاعتماد على نفسي.
انتقلت من بيتنا أيضاً إلى منزل جديد حيث البيوت قديمة وواسعة ومليئة بذكريات غيري. ثم صرت أكتب قصصاً قصيرة. كتبت للأطفال بالرغم من أنني لا أحبهم. كتبت عن أمي وظللت أمثّل أنني سعيدة وهادئة كي يحبني حارس البناية الجديدة والجيران. وأمام مدخل الفرن الصغير في آخر الشارع التقيت الأستاذ سميح. كيف نسيت أنه يسكن في الزقاق المتفرّع من الشارع نفسه الذي أسكن فيه؟ زرته حين كنت تلميذته في المدرسة الأميركية. كنت أزوره أحياناً أيام الخميس حين نخرج في الساعة الواحدة ظهراً بدلاً من الثالثة.
كيف لم أبحث عنه بعد؟ وحده الأستاذ سميح صدّق أنني ذكية، رغم أنني أنا نفسي لا أصدّق ذلك. أعرف أنني كنت أتوق إلى أن أبدو متميّزة عن غيري. وكنت مستعدة للكذب في أية لحظة فقط كي أعارض الآخرين. أتعب من التفكير في أجوبة تصعق التلاميذ، وهو لا يسكتني، كما كانت تفعل زميلته معلّمة الفلسفة العربية الضخمة، بل يبتسم لي دائماً تلك الابتسامة الساخرة والمشجعة في الوقت نفسه. كأنه فهم أنني أبحث عن التوازن النفسي ولا أجده. كيف لم أبحث عن الأستاذ سميح بعد؟ والأستاذ سميح مثلي لا إخوة له أو أخوات.
وما زال يستخدم مظلّته عصا يطرق بها الأرض وينظر أمامه تماماً وهو يمشي. حين رأيته، قلبي الذي خفق سريعاً، حيّرني. لكنني صرخت: «أستاذ سميح». وقبل أن ألفظ اسمي لأذكره بي وحين قلت «أنا»، عادت إليّ ابتسامته المعهودة: «أعرفك جيداً، ما زلت ممثلة بارعة».
الأستاذ سميح تغيّر. فقد الرومنسية التي كانت في عينيه. وبات حقيقياً جداً. أخبرته بسرعة عن القصص التي أكتبها وأنني أحبّ أن يقرأها ويعطيني رأيه بها. وأخبرني أنه تزوج. لا أستطيع أن أتخيّل الأستاذ سميح حاضناً ابنته التي قال إنه سمّاها حنان. ربما حان وقت التفكير في التنازل عن وحدتي. فحتى الأستاذ سميح، الذي لم أنسَ يوماً أصابع يديه القصيرة والممتلئة وهو يشرح لنا معنى «الشغف» في صف الفلسفة الغربية، تزوّج.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024