تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

لعبة الإيهام

تسنّى لي أخيراً أن أشاهد الفيلم «الأوروبي» الأول للمخرج الإيراني عباس كياروستامي بعنوان فرنسي هو Copie Conforme أو «نسخة طبق الأصل» كما  يبدو أنه اتُفق على ترجمته. عُرض الفيلم في سينما «ميتروبوليس» ضمن حدث سينمائي (نظّمته جمعية ميتروبوليس) جمع تحت عنوان «الحياة ولا شيء أكثر» أفلاماً للمخرجَيْن الإيرانيَيْن كياروستامي وجعفر بناهي. خلال أمسية بيروتية متوترة من سلسلة «الإثارة والتشويق» التي كُتب علينا متابعتها، بدت الصالة المعتمة الملاذ الأجمل من قلق لبسته الشوارع وظهر على ملامح الحياة خارج البيوت وداخلها.

اختفى القلق في الصالة حيث أُغلقت الأبواب على جمهور عريض اضطر المنظّمين إلى تأمين كراسٍ وُضعت بجانب الجدران لتكتظّ القاعة بمَن بحثوا عن تقدير ما يجمعهم من أسئلة ومواقف وانفعالات ومشاعر بالإلفة والدفء.

يفتتح الفيلم مشهدٌ لكاتب بريطاني (يؤدي دوره وليام شيميل) يقدّم محاضرة عن كتابه الذي يناقش فكرة الأصل والصورة في الأعمال الفنية أو العمل الأصلي والنسخة التي تقدّم صورة طبق الأصل عنه.
يبدو المشهد حقيقياً، كأننا فعلاً نتابع محاضرة وكأن المشهد ينتمي إلى فيلم وثائقي.

تغادر قاعة المحاضرة امرأة فرنسية، نعرف لاحقاً أنها صاحبة غاليري للأعمال الفنية والمنحوتات، تؤدي دورها الرائعة دوماً الممثلة الفرنسية جولييت بينوش. ثم يلتقي الكاتب وصاحبة الغاليري ونمضي معهما نهاراً في بلدة إيطالية، الفيلم بمشاهده الواقعية ليس واقعياً أحياناً لأن حواراً «فلسفياً» كالحوار الذي جمع بين الكاتب وصاحبة الغاليري لا يمكن أن ينطلق بهذه العفوية ليصبح جدياً إلى هذا الحد بين شخصين يلتقيان للمرة الأولى.

لكن أين هي الحقيقة في السينما؟ وفي الوقت نفسه كل مشهد سينمائي يمكن أن يكون مشهداً حقيقياً. صاحبة الغاليري والكاتب اللذان يلتقيان للمرة الأولى يتحوّلان خلال جولاتهما في معارض البلدة وساحاتها ومقاهيها إلى زوجين تعاني علاقتهما مشكلات تكاد تكون «كليشيهات» من غياب الزوج إلى فتور العلاقة الحميمة بينهما بعد مرور 15 على زواجهما.

فجأة يدخل الحوار سياقات مختلفة، فيُدخل المتفرّج إلى مساحات من الدهشة والضياع الجميل بين تصديق ما يسمعه والذي يكاد أن يكون حقيقياً وبين القبول باللعبة، لعبة الإيهام، لعبة الأصل والصورة.

فالسؤال الذي يطرحه الكاتب البريطاني في الفيلم حول أهمية الأصل إذا كان هو نفسه نسخة من الحقيقة من دون أن يرى أهمية للفرق بينه وبين العمل غير الأصلي أو النسخة (المزوّرة)، يطرحه المخرج أيضاً الذي يقدّم لنا مشاهد في الفيلم «غير أصلية» بتحويله صاحبة الغاليري والكاتب إلى زوجَيْن لا تلتقي رغباتهما، لكن المشاهد الأصلية هي أيضاً نسخ من الحقيقة، لأن السينما ليست الحقيقة، السينما مبنية على النسخ، السينما ليس الحياة، لكنها يمكن أن تكون أيضاً حقيقية أكثر من الحياة بعرضها نسخاً مختلفة من الحياة الأصلية، نسخاً أكثر عمقاً وثراء، نسخاً شعرية وعميقة في بساطتها مثل فيلم كياروستامي الذي يمكن القول إن لعبة الوهم أو الإيهام أجمل ما فيه.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079