حكايات الآخرين
في الرواية التي أنقذت حياتها لم تستعن الكاتبة براوية. هي البطلة الكاتبة الراوية. الكتابة أنقذت حياتها، خلّصتها من الفراغ والاهتمامات التافهة المرتكزة، في محيطها بشكل خاص، على تقليد الآخرين. هي تكتب الرواية وتروي أيضاً، «أناها» ترويها. وحين تكون الأنا راويةً يصبح تبرير ما يُروى أصعب.
لا يحتاج الراوي أو الراوية، التي تحكي عن الآخرين، إلى مبرّر لروايتها، لا تحتاج إلى أن تشرح لمَ تروي ما ترويه، هي الحكواتية، هي لسان فن الحكاية الذي لا يحتاج وجوده أو التعبير عنه إلى مبرّر. لكن الأنا الراوية حتى لو ما كانت هي الأنا الكاتبة في الوقت نفسه، تحتاج إلى تبرير ما تحكيه. مهمة الكاتب هنا أصعب في الإقناع.
الحكاية البعيدة عن راويها تبرّر نفسها بنفسها، حكايات الآخرين تُروى من دون أن يُسأل راويها أو راويتها (خصوصاً راويتها): لماذا تروين ما تروينه؟
بالنسبة إليّ لا أجد ما هو أجمل من فن الرواية. ويتعبني أنني في ذاكرتي لا أجد قصصاً شعبية، وأقصد بالقصص الشعبية تلك المتسرّبة إلينا من الأزقّة والأحياء و«الحواري».
أحمل في ذاكرتي قصصاً غريبة وجميلة عن جدتي وزواجها، وعن المصاهرات المعقّدة بين العائلات الجنوبية أو البقاعية، عن جنوب لبنان مطلع القرن الماضي، وعن تأثير الحرب العالمية الثانية في حياة أفراد بعينهم. أحمل في ذاكرتي قصصاً كثيرة عن الحروب. وتعاندتي الكتابة عن الحرب لتظهر في أوراقي الليلية.
لقد أصبحت أوراقي ليليةً منذ لم أعد أستطيع أن أسرق من الفجر دقائق للكتابة، وهو ما اعتدت أن أفعله قبل أعوام. وحده الليل يمنحني دقائقه، فأخوض حرباً مع النوم كي لا أردّ لليل هديته.
والحرب التي يصعب التطهّر من الكتابة عنها، لأنّ التطهّر منها لم يحصل، لا تتوقف عن إزعاجي والظهور في مشاهد من كتاباتي بعدما نفيتُها عنها.
وقرفي ومللي تأثير الحرب في ما يمكن أن أكتبه يمنعانني من استئناف مشاريع روائية. لن أتحدّث عن المشاريع والأحلام لأنها تحبطني والواقع يحبطني أكثر. المهم أن بطلتي تحكي روايتها وتتعذّب. تروي «أناها» المختلفة بين مرحلة ومرحلة، وتروي الآخر الذي صادفته في درب حكايتها.
تتعذّب بطلتي لتبرّر ما ترويه. وتتجاهل السؤال: لماذا تروي هذه المرأة حكايتها؟ وأنا أترك بطلتي لعذابها وأنتظر بعد صفحات قليلة أن تفاجئني.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024