عن 'حيوات أخرى'
لماذا نكتب؟ وماذا نكتب؟ سؤالان يوجّهان دوماً لكتّاب الروايات والقصائد. تتنوّع الإجابات طبعاً لكنّها تلتقي في مساحة مخصّصة للموت. أسئلة الحياة التي تطرحها الروايات والقصائد هي أسئلة حول الموت ومعناه، وحول التمسّك بالحياة والانشغال بتفاصيلها. ليس الروائي الذي يكتب حيوات الآخرين متمكّناً من الكتابة أكثر من روائي يكتب حياته.
أظنّ أن الكلمات تشبه أصحابها مهما اختلف السياق الذي ولدت فيه. والكلمات في رواية إيمان حميدان الثالثة «حيوات أخرى» تشبه كاتبتها. كما تشبه إيمان قدرتها على أن تكتب ببساطة ووضوح مواقف معقّدة وشائكة وثقيلة بسبب عمقها وعمق تأثيرها في حيوات الشخصيات. تكتب إيمان ببساطة أيضاً التفاصيل التي لم نفكر فيها والتي هي الحياة.
هذه التفاصيل تنبّهنا إليها الرواية وأسئلتها، والتي تدور حول «حيوات» سيدة عادت إلى بيروت من كينيا حيث تعيش مع زوجها البريطاني. وكانت هذه السيدة الراوية قد غادرت لبنان إلى أوستراليا مع أمها وأبيها بعد مقتل أخيها في الحرب الأهلية اللبنانية.
وقد فقدت أيضاً بسبب الحرب خطيبها الذي اختفى وهو في طريقه إلى مرفأ جونيه ليغادر على متن سفينة إلى لارنكا ومنها إلى أوستراليا (كمحطة نهائية) حيث تنتظره خطيبته الراوية ميريام. كيف يمكن ترميم حياة شرخها الفقدان مرتين؟ وأين يمكن ترميم هذه الحياة؟ في المنفى أم في الوطن؟ وهل يمكن التخلّص من الشعور بالمنفى؟ الراوية ميريام شرحت أن الحقائب هي بيوت المنفيين الذين «يخترعون أماكن مستقرّة لإقامة مؤقتة ورحيل مؤجلّ*». هم يعيشون «على الحافة».
أما المنفيون قسراً بسبب ذاكرة أثقلها العنف، فهؤلاء يعجزون عن «قتل الخوف»، الوحش النائم فيهم، لأنهم اختبروا العنف، عرفوه وانتهى الأمر، ومحاولة تناسي ما حصل وهْم يسيطر عليهم ويهدّدهم. فتناسي الخوف أخطر من قتله.
بين حيوات الراوية المؤرّقة بالأسئلة وبمحاولات تشريح الذاكرة وبين الحاضر تتنقّل الروائية وتقفز من أسلوب روائي تقريري إلى جُمَل يمكن أن نسمّيها «لمعات» تدلّ على أن التفكير في الموقف المكتوب لا ينفصل عن الإحساس به. هي تحسّ بالفكرة وتفكر في الإحساس.
من مومباسا إلى أديلاييد، إلى بيروت الماضي والحاضر، إلى جبل لبنان الحاضر في كشف تفاصيل جميلة عن حياة الدروز فيه، تتداخل الأحداث والأزمنة في حياة امرأة تنتظر الماضي في المستقبل. فالحياة الطبيعية التي هي حقّ الإنسان في عالمنا شبه المتحضّر أُجهضت.
وما بقي هو ركام حياة ومحاولات للعيش، «ترقيع»... والترقيع لا ينجب حياة جديدة. ميريام الراوية تعجز عن إنجاب حياة جديدة، لكنها في الماضي المشروخ تعيش «حيوات».
*رواية «حيوات أخرى»
الكاتبة: إيمان حميدان
الناشر: الراوي
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024