تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

كائن 'انعزالي'

بين بيت جدّه والبيوت الأخرى، باقي بيوت القرية، مقبرة صغيرة هي مقبرة عائلته. لم يفهم يوماً سبب إبقاء الراحلين على مسافة قصيرة من البيت. فليست مقبرة القرية بعيدةً من البيت الذي يتوسّط الساحة. في القرى القريبة والبعيدة، مقابر العائلات التي تفوق عائلته حسباً، تعتبر جزءاً من مقابر القرية «الرسمية» حيث يتساوى الغني والفقير وابن العائلة المعروفة بمَن مات قبل أن يُعترف بانتمائه إلى القرية. في آخر «الحاكورة» المطلّة على بوّابة البيت الصغرى تلوح أسرّة من رخام. لا ينظر إليها ولا يقصدها في الصباحات التي تحمله من بيروت إلى هنا.

منذ عاد من أميركا لم يزر القبور التي تلتقي على أطراف قطعة الأرض الصغيرة. تعيش قبور أقربائه بين الناس في ساحة القرية. يمكن أن يراها اللحّام من ملحمته وأبو عبد النجار وهو يصلح الكراسي وفاطمة ابنة جليلة وهي تنفض الغبار عن سجادة الصالون. «جبّانة» القرية الرسمية ليست بعيدة عن البيوت، لكنها بعيدة نسبياً عن ساحة القرية. يَذكر أنه في طفولته لعب بين قبور جده وأعمامه من دون خوف أو أي شعور بالرهبة. كان هو وقريباته أيام الطفولة يقلّدون أصوات المفجوعين وحركاتهم فوق القبور «الطازجة». كانت أوشحة النساء الشفافة السوداء المنسدلة على الأكتاف تحرّك لديه الرغبة في أن يكون جزءاً من المشهد، وأن يكون بطله ربما. وقد كان يدرك أن البطل في مشهد كهذا أصبح تحت التراب، وهذا هو مشهد البطولة الأخير الذي يؤديه. عمّه محمد في ذاكرته هو أول بطل في مشهد الوداع.

أنقذته الموسيقى من أفكاره. من أين تأتي هذه الأنغام؟ كلّما زار البيت الكبير، وفي مثل هذا الوقت بالذات،  يصدح غناء أوبرالي أو تصل إليه أنغام إسبانية تحديداً. فكرة أن تجتمع الأوبرا والقرية في جملة واحدة أو مشهد واحد تسحب منه دوماً ابتسامة سرّية. ماذا لو عاد إلى هنا ليرمّم هذا البيت ويبقى فيه؟ لكن البيت الكبير هذا في قلب القرية، وهو لا يريد «وجع رأس»، لا يريد أن يزوره أحدٌ أو أن يزور أحداً. ورغبته في الابتعاد عن أهل القرية مرتبطة في شكل أساسي برغبته في الابتعاد عن البشر في شكل عام. هو كائن انعزالي، وقد استعار هذا التعبير من معارك السياسة اللبنانية التي تضحكه الآن بسبب هبوط مستواها بالرغم من أنها مع سيطرة العولمة، اكتسبت طابعاً «عالمياً». لو يستطيع أن ينقل هذا البيت إلى قطعة أرض بعيدة عن الساحة. قرّر أنه سيحاول، سيبني بيتاً هو نسخة مصغّرة من البيت الكبير هناك حيث صمت الأسرّة الرخامية نقيّ وصافٍ.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077