تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

المأساة والأرقام

عُرضت في بيروت مسرحية «عائد إلى حيفا» في رؤية إخراجية جديدة وقّعتها اللبنانية لينا أبيض. 62 دقيقة هي مدة المسرحية، 62 عاماً هو عمر المأساة الفلسطينية المستمرّة. قبل 62 عاماً، عام 1948، طُرد الأديب والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني من فلسطين مع مئات الآلاف من أبناء وطنه.  منذ 38 عاماً اغتال الإسرائيليون كنفاني عن 36 عاماً.

«عائد إلى حيفا» هي روايته القصيرة التي تتجدّد مع تجدّد المأساة. كيف استطاع كنفاني أن يبني الواقع والحاضر والآتي في كلمات تشكّل بناء واحداً متيناً وتتنوّع الأطُر التي يمكن عرض هذا البناء عبرها؟ فقد تحوّل النص إلى فيلم سينمائي عام 1981 (أخرجه قاسم حول) وإلى مسرحيات عُرضت بلغات مختلفة، وعَرضُ لينا أبيض على مسرح «بابل» هو العرض المسرحي الأول لـ«عائد إلى حيفا» باللغة العربية.

هذا العرض وفيّ لكلمات كنفاني ولنصّه، فالكلام الذي استمعنا إليه بشغف هو كلام الأديب الراحل، والكلمات التي سردت أحداث المسرحية (أو الرواية) هي كلماته نفسها، كلمات لا يمكن تأخير إحداها أو تقريبها، ولكلّ كلمة دورها المؤثر والباني في سياق الرواية القصيرة وفي سياق المسرحية. لقد حَمَل النصُّ المسرحيةَ كلّها التي كمّلتها أفكار لينا الأبيض ورؤاها.

يعود الزوجان صفية (رائدة طه) وسعيد(غنّام غنّام) إلى حيفا التي طردا منها عام 1948 بعدما سمح الإسرائيليون للفلسطينيين بعد حرب عام 1967 بزيارة أمكنتهم التي أُبعدوا عنها.

يعود الزوجان إلى حيفا حيث تركا في بيتهما، خلال فوضى الحرب والمجازر وتحت وقع القصف الصهيوني لحيفا، طفلَهما خلدون (في شهره الثاني).

لقد فُصلا عنه ودُفعا مع أهل حيفا إلى البحر ليرحلا مع الراحلين عن المدينة والبيت. الابن الضائع هو الوطن المخطوف، وخسارة الوطن هي أيضاً خسارة الابن والبيت والماضي والتاريخ وأجزاء من الحاضر والمستقبل. يترتّب على اختفاء الماضي تغيّر المستقبل.

لقد عثر سعيد وصفيّة على ابنهما الذي تحوّل من خلدون العربي إلى دوف اليهودي المجنّد في الجيش الإسرائيلي (أدى دوره حسين نخّال). عثرا على بيتهما الذي لم يتغيّر كثيراً، ولعلّ هذه النقطة هي إحدى النقاط القوية في الرواية والمسرحية أيضاً.

لقد شاهدنا صفية وهي تتأمّل تفاصيل ديكور البيت، كراسي غرفة الطعام، والريَش التي تزيّن الإناء على الطاولة، والستائر الجديدة التي لم تعجبها. رأينا سعيد وصفية وهما يزوارن نفسَيْهما وبيتَيْهما، ويكون عليهما أن يكتفيا بالفرجة ويتحسّرا على ما فقداه بالقوة.

لقد فقدا أيضاً ابنهما الذي اتهمهما بتركه في البيت وبترك البيت أيضاً. واتهامه هذا هو ذريعة الجلاد الذي يساوي نفسه بالضحية.

فالحقيقة الواضحة كالشمس هي أنّهما غادرا لأنهما أُجبرا على المغادرة، وهي أنهما مُنعا من استعادة ابنهما رغم محاولاتهما. لم يكن خيار البقاء مطروحاً في مواجهة العنف الصهيوني، لم تكن معركة متكافئة كي يدخلاها.
رحلا وفي الرحيل أمل بالعودة وبالقتال من أجل العودة.

هذا الأمل ظهر في الصبية والشاب اللذين أوقفتهما المخرجة في وسط المسرح لكن بين جدارين بعيدين. هذا الشابان (أدى دوريهما سميرة الأسير وهاروتيون أزميرليان) هما انعكاس لسعيد وصفية، لشبابهما ولشباب المستقبل، لابنهما خالد الذي قررا الموافقة على التحاقه بالفدائيين بعدما تأكدا من أن ابنهما خلدون خُطف مع الوطن والبيت. الابن هو الوطن والبيت.

ويجب هنا الإشارة إلى إنسانوية كنفاني في جعله الإسرائيلية البولونية الأصل التي احتلّت بيتهما قادرة على التأثر بمأساتهما. البولونية تتحدّث عن أهلها الذين ظُلموا وقُتلوا لأنهم يهود، وعن ملاحظتها أن أفراد عصابات الهاغانا يظلمون الفلسطينيين لأنهم فلسطينيون أو عرب.

نجحت لينا أبيض مع الممثلين المبدعين (عليّة الخالدي في دور الإسرائيلية) في إبراز كل ّ هذه التفاصيل، من جمال العلاقة بين سعيد وصفية إلى أصغر تفاصيل الخسارة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077