تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الحقيقة ومفاجآتها

قال الطبيب إن حياتها بدأت الآن. أكّد أنها نجت من الموت وأنها أصبحت في صحة جيّدة. تذكُر أنها حاولت أن تكتب تجربة عيشها في مكان لم تعرف حفظ سِماته الجغرافية. تعيش في بلد يشبه المطار، لكن في منزل تستمع فيه إلى الصمت. لم تكن تعرف أنها قادرة على التكيّف مع الهدوء، وهي لم تكتفِ بالتكيّف معه بل أحبته.

تنتظر عودة زوجها من عمله كأنها تنتظر رؤيته للمرة الأولى. الآن ستصل سيارته، تقول لنفسها. تعرف السيارة من صوتها، فتفتح الستائر. تجد متعة في مراقبته يركن السيارة ليأتي إليها. وتحاول أحياناً أن تتجاهل رغبتها في تعطيل نهارها، وتسعى إلى استعمال عقلها في أمر لا علاقة له بالانتظار.

قيل إنها حصلت على الزوج المثالي، لكنها لم تكن واثقة بأنها حصلت عليه وحدها. وتحسّ بأنّها ستفقده في أية لحظة. ولمَ تهتمّ إلى هذا الحد بمسألة فقدانه؟
لقد تركت منزلها في بيروت وجاءت إلى آخر الدنيا لتبقى معه. ووجدت نفسها تشرب قهوة الصبح وحدها، ولا تقرأ كما اعتادت أن تفعل في الماضي. فقط تكتب رسائل لنفسها، وتبحث في المجلات عن وجوه المشاهير لأنها وجوه مألوفة. ويتعبها أنّها كلّما أرادت استحضار حادثة ما، حادثة واحدة، هجم عليها الماضي كلّّه. هكذا بدأت تتعلّم الصبر، وتبحث في الليل عن قصة، وفي النهار تبحث عن النوم. وبعدما كانت سيّدة نفسها أصبحت سيّدة البيت فقط.

ما زالت في طور استيعاب الوجوه المختلفة الأشكال والألوان التي قلّما تلتقيها، والألسنة المختلفة اللغات واللهجات التي تحلم ليلاً بأصواتها. لكنها في الوقت نفسه تحسّ بأنها ما انتقلت للعيش في بلد آخر. تعيش الآن حياتين، ولا تعرف إذا كانت قد تغيّرت أم إذا كانت لا تزال تبحث عمّا يجعلها تحسّ بأن الحياة ثمينة وبأنها على وشك الانتهاء.

تأخّر الوقت. فات الأوان. سئمت محاولة تفكيك لغز زواجها ومعرفة سبب ارتباط زوجها بها وهروبه اليومي منها. كانت قادرة على الاكتفاء بأول علاقتها به. فأجمل ما في قصص الحب بداياتها. يبدو أنها أحبّته. وجعلها حبها تتخيّل أن حياتها تسير باتجاه الكمال. خافت من السعادة المزيّفة والسعادة الحقيقية أيضاً. أرادت باختصار أن تبتكر دراما تحرّكها وتحرّك عشقها لغة ماتت في مدينة لم تحفظ بعد شوارعها.

ادّعت المرض ومرضت. وعندما صحت من غيبوبة مرضها لم تعرف تحديد مكانها. وقف رجل بالقرب من سريرها عرفته بعد حين، لكنّها في تلك اللحظة التي فصلت بين صحوها وعودتها إلى الحقيقة وجدت الراحة في حيرتها وفي التوق إلى ما ستكونه الحقيقة ومفاجآتها. ستتذكر كل شيء بعد أن تستطيع تحديد مكانها، وستنهال عليها الذكريات بعد أن تقرّر وحدها اختيار مكانها.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077