تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

سهرة

منذ وجدتْه أصبحت لا تعرف الصمتَ. قلّما ثرثرت، لكنها الآن بعدما تحرّرت من صمتها القديم كشفت له كلّ ما تفكّر فيه، وهي تفكر في أمور كثيرة في هذه المرحلة من حياتها. لا تسمح له بأن يردّ على ما تقوله. تطرح عليه سؤالاً ثم تحاول هي أن تجيب عن سؤالها.

وهو يبتسم لكلّ ما يجري. البارحة أوقفت تدفّق كلماتها لتعلن له أنها مصابة بانهيار عصبي وأن هذا الانهيار مسؤولٌ عن سَيْل الكلمات التي تتدفّق من عقلها ولسانها وشفتيها. «لا بأس»، قال. وهو لا يفهم سبب قدرته على الاستماع إليها، هو الذي يعشق الصمت ويؤمن به. لقد اعتاد على وجودها إلى جانبه في المدينة الجديدة بالنسبة إليه. هي هنا دليله وعكّازه وصوته وعيناه. كما يجد ملاحظاتها مضحكة. «أرى أنّ صديقتك الجديدة قبيحة وغير مرتبة. ألاحظت حذاءها؟ كيف يمكن ألا تلاحظ حذاءها؟».
«لا يهمّ، الحذاء لا يهمّ».

«طبعاً يهمّ الحذاء، والمشية أيضاً تهمّ. الذراعان مهمّتان أيضاً، يجب ألا تتدلّيا من الجسم كأنهما لا تنتميان إليه. والصوت يهمّني أيضاً».

غادرا المطعم لأنهما انزعجا من صوت امرأة تجلس إلى الطاولة المجاورة لطاولتهما. صوتها لا يطاق، يوحي وجهها أنها تكشف أسراراً للرجل الجالس قبالتها، لكنها أسرار استمع إليها روّاد المطعم كلّهم.

«صوتها عال جداً، لا يطاق. فلنذهب. الصوت الخفيض مزعج أيضاً، يشي بوقاحة صاحبه أو صاحبته. صاحب الصوت الخفيض يحبك مؤامرات سخيفة ويعيش في عالم لا يفهمه غيره».

كلّ ما يجري في شوارع بيروت حيث يتمشيان الآن استوحي من فيلم رعب.أخافَها صوت سائق التاكسي «الطالع من ميكروفون خفيّ». وهو يحرّك شفتيه من دون أن تتحرّك سيجارته. نظرت إلى رفيقها، لاحظت أنه يضع يده على شعره مرات كثيرة.

«أين أستمع إلى الصمت؟» سألها. «الكلّ يثرثر هنا، الكلّ لا يتوقّف عن الكلام، كلام بلا معنى، كلام لا يغيّر حياة شخص واحد».
لا يقصدها، هي واثقة بأنّه لا يقصدها. قررت أن تتوقف عن الثرثرة الآن. 

وجه السائق محروق. أخبرهما أنه مضطر لنقل الشاب الجالس بجواره في المقعد الأمامي إلى المستشفى. وهي لم تسأله عن حالة الشاب. كانت على وشك أن تسأله ثم صمتت.

صوت تلك المرأة في المطعم غيّر برنامج سهرتهما. «كلّنا ضحايا الأصوات المرتفعة»، قالت لنفسها، و«ضحايا الأصوات الخفيضة أيضاً»، أضافت. بعدما ترجّلا من سيارة الأجرة كان على سهرتهما البيروتية أن تنتهي. افترقا وتمسّك كلّ منهما بصمته. 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077