تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ثائرتان

تغيّرت علاقتي‮ ‬بالوقت في‮ ‬باريس‮. أُجبرت على‭ ‬أن أصحو في السادسة صباحاً، ‬وكنت أصارع الشوق إلى أيامي البيروتية. و‬لم أكن أعرف أنني‮ ‬مولعة بوسادتي إلى هذا الحد‮. انفصلت عن غرفة نومي خلال شهر‮ ‬كامل. الواجب أجبرني‮ ‬على تلبية نداء الاستغاثة الذي‮ ‬نقلته إليّ‮ ‬عمّتي‮. غادرت بيروت إلى باريس حيث تعيش عمّتي التي هربت من سلطة عمّي‮‮ ‬منذ ثلاثة وأربعين عاماً‮.‬

لم أعرف يوماً تحديد عاطفتي تجاهها، وقد ‬كنت وما زلت أفخر بجرأتها‮. ‬استطاعت عمّتي‮ ‬أن تهرب من‮ ‬غباء‭ ‬عمي‮ ‬وتسلّطه ومن سلبية أمها،‮ ‬أي‮ ‬جدتي،‮ ‬إلي‮ ‬أميركا حيث أكملت تعليمها. ثم لا أعرف كيف أصبحت في باريس. لعلّ فرصة التعليم أُتيحت لها هناك، وكانت تحتاج إلى العمل. سمعت أنها لحقت بخطيبها إلى فرنسا حيث انتهت قصّتهما.

طلبت عمّي مني أن أزورها، وقالت إنها تحتاج إليّ. طرت إليها. أجلس معها، فلا تتكلّم.‮ ‬وأتأمل وجهها البريء الذي‮ ‬لا‮ ‬يوحي‮ ‬أنه لثائرة أو لامرأة عرفت كيف تعيش حياتها ووحدتها‮. ‬لم تندم عمّتي‮ ‬على عدم زواجها وعدم إنجابها بنتاً تحديداً‮. ‬بدت ‬راضية عن ماضيها ووحدتها وفرِحة بي‮ رغم صمتها. ‬وما علمتُ سبب ربطها بين انطوائي‮ ‬على‭ ‬نفسي‮ ‬في بيروت، في‮ ‬غرفة أصبحت بيتي،‮ ‬وإضرابي‮ ‬عن العمل وعن الأصدقاء وبين هروبها من قيود أخيها وقيود الزواج التقليدي‮ ‬إلى‭ ‬مدن الحرية‮. ‬كانت عمّتي‮ ‬ترى‭ ‬في‮ ‬إضرابي‮ ‬عن خوض الحياة العملية والعائلية في‮ ‬صورتهما التقليدية ثورة تشبه ثورتها‮. ‬ربما لهذا بالغتْ في خوفها عليّ،‮ ‬وربما لهذا أصرّت على أن تراني‮ ‬وكأن رؤيتي‮ ‬أمنيتها الأخيرة‮. وأنا ‬لم أدرك أنها كانت تودّعني.‮ ‬كنت معظم الوقت أؤجل التفكير في غيابها كأنني‮ ‬أؤجله، ‬وربما أردتها أن تموت وحيدة أو على‭ ‬الأقل بعد رحيلي. ‬ولم تمت عمتي‮ ‬خلال وجودي في بيتها.

تركتُها تعبة وشفافة وقادرة على‭ ‬أن تبصر النهاية قبل مجيئها‮. وأدركت بعد عودتي إلى بيروت‮ أنّ رحلتي غيّرت فيّ‬أموراً‮ ‬كثيرة‮. ‬‮حلّ محلّ غضبي‮ شعوري‮ ‬بالرضا عن أيام أمضيتُها‮ ‬في‮ ‬باريس‮. ‬دفعني‮ ‬هذا الشعور إلى الاستغناء‭ ‬عن طقوس الجلوس في‮ ‬الغرفة نفسها خلال أربع وعشرين ساعة‮. ‬وبدأت خفض صوت التلفزيون ثم‮ ‬إطفاء‭ ‬جهاز الكومبيوتر ثم الخروج إلى‭ ‬الشرفة ثم النزول إلى الشارع‮. ‬وسألت عن أصدقاء‭ ‬قدامى وعن أسعار الهواتف النقالة ثم عن رواتب بعض الحائزين شهادات في‮ ‬علم الاجتماع‮. ‬وكنت في‮ ‬مقرّ عملي الجديد‮ ‬حين اتصلوا بي من البيت ليخبروني أنها رحلت‮. ‬وحين عدت إلى‭ ‬غرفتي‮ ‬الصامتة ‬أدركت أنني‮ ‬إحدى صُوَر عمّتي وأنها إحدى صُوَري.  ‬

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077