تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الصوت القاتل

امتدّت يدي إلى شَعري، كان عليّ أن أكون أشد حذراً كي لا يلاحظ الآخرون أن أمراً ما يضايقني. فجأة وجدتهم ينظرون إليّ. كنت أمرّر كفّي على قماش سترتي وألهو بالأزرار الصغيرة وحين رفعت رأسي قليلاً، رأيتهم ينظرون إليّ. ربما كان عليّ أن أبدو مستأنسة بالجلسة والحديث الذي تلوّنه السياسة والتخطيط لغد أفضل. تخيفني المدينة التي أزورها. أخاف من مساحتها الكبيرة ومن كثافة السكان التي تحوّل الليل نهاراً. حين اكتشف الآخرون شرود ذهني بالغوا في الاهتمام بي، كان علي ّأن آكل بشهية كي أبرّر صمتي. لقد أذهلني هاتفك، كلما هربت منك وجدتك أمامي. تركت مدينتي منذ يومين دون أن أترك عنواناً أو هاتفاً يربطني بحياتي اليومية. اغتنمت فرصة انعقاد الاجتماع المتعلّق بعملي خارج البلد وخارج مكاني اليومي لأبتعد عن «روتين» حياتي وعن مفاتيحي والسيارة وصوت الهاتف حين يحمل إليّ صوتك.

وفي بيت أصدقائي في البلد الجديد حيث أردتُ البقاء عشرة أيام، أسندتُ رأسي إلى الباب الزجاجي الذي يؤدي إلى الشرفة. نظرت بعيداً. يمتدّ الشارع حتى آخر ضوء أستطيع رؤيته. لا بد أنّ كلاباً تجول في المنطقة، لكنني لا أريد أن أخاف من المدينة الجديدة. عليّ أن أسمعها فقط. سعدتُ بعلاقتي المتينة بحواسي والتي نمت منذ اكتشفتها. إلا أن علاقتي المتينة بحواسي غالباً ما تسبّب لي الإرباك، كأن أسمع وحدي ما ليس عليّ أن أسمعه أو أن أشتمّ ما يغيّر مزاجي بين لحظة وأخرى أو أن أراك فجأة أمامي، فأحاول الركض.

أرى الليل في المدينة التي هربتُ إليها، ولا أسمعه. أحب أن يحاصرني الزجاج كي لا أسمع صخب الليل هنا. في منزل أصدقائي حيث دُعيت في المدينة الجديدة أنتظر أن أسمع نفسي، لكنني أنسى أن أتكلّم. وغالباً ما أنسى أن أتكلّم وحين أتذكر أن أتدخّل وأن أرضي فضول بعض الساهرين، يكون الأوان قد فات والحديث قد انتهى.  
- تستطيعين أن تكتبي بالقلم الخشبي، قال لي، بعدما رنّ الهاتف فجأة وبعدما وجدت قلماً غريباً ينتظرني في الفندق حيث نزلت.
- أعلم ذلك.

أجبت بغباء. كان باستطاعتي أن أقفل سماعة الهاتف أو أن أرميه من الطابق السادس أو أن أطبق على أذني بكفيّ مثلاً، لكنني لم أطبّق أيّاً من تلك الحلول. انتظرت صمته، لكن الصوت المرتجف زاد صمتي. فكرتُ في احتمال أن يقتلني الصوت. لماذا ضحك أصدقائي حين أطلعتهم على خوفي هذا. ولا أعني، حين أقول يقتلني الصوت، غيظي من الصوت بل أقصد الصوت نفسه أو ربما قصدت صاحبه. يستطيع الصوت أن يقتلني، كما يستطيع غضب الصوت أن ينفّذ جريمته في لحظة واحدة. الليل الذي أتاني فيه الصوت لم يكن عادياً. ولم أطمئن للفتاة التي دخلت غرفتي لتضع باقة الورد المرسلة من مدينتي. لم تكن هيئتها عادية. بدت وكأنها طفلة في العاشرة، لكنني أراهن على أنها في الثلاثين أو أكثر. وحين ابتسمت لي كأنها تعرف أن باقاتك تطاردني، انتبهت إلى شعرها الجعد الذي يغطي كتفيها وعينيها اللتين تبدوان يقظتين أبداً. نظرت إليها وكان عليّ أن ابتسم دون أن أخفي خوفي.

وكان يجب أن أنام كي أفهم الفرق بين البارحة واليوم. صحيح أن أسماء الناس لم تتغيّر وأنني لم أتغيّر بعدما صحوت في اليوم التالي. لكن قلْ لي قبل أن ينتهي يوم آخر، لماذا طلبت رؤيتي؟ تراك لحقتني إلى هنا. 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077