تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

مَن قتل خريفَ بيروت؟

اختفى خريفُ بيروت. هرب من أصوات الحَفر في بطن التاريخ ونبش القصص والأسماء والأجسام التي صارت عظاماً. فثمّة تحت الأرض أرضٌ دُفنت فيها قصصٌ حيّة وأدلّة على حضارات إنسانية غابرة، وأدلّة من نوع آخر على وحشيّة حرب خبيثة تخفي نيرانها ثم تشعلها فجأة في وجوه الأحياء، وقد تنتقم من الأموات أيضاً. هذه كلّها أمور لا يفكّر فيها أصحاب مشاريع البناء وأصحاب الجرّافات التي تُنجز عمليات الهدم قبل البناء. فالبناء هذه الأيام في بيروت لا يتمّ من دون هدمٍ لأنّ المدينة ضاقت بأطماع بعض أبنائها... فلنعُد إلى الخريف. لقد هرب الخريف من صبّ أسس بنايات لن يسكنها أحد.

فقدنا الخريف الذي غنّينا له وكتبنا له ومنحناه أجمل قصص الحبّ وأهدينا إليه أجمل القصص والروايات والقصائد. فلا يُحصى عددُ الفنانين والمبدعين الذين أعلنوا أنّ الخريف فصلهم المفضّل. وثمّة كتّاب ينتظرون السماء الحائرة بين الأزرق والرمادي والهواء الحائر أيضاً بين السكون والجنون ليبدأوا مشاريعهم الجديدة. ولن يكون على هؤلاء أن يبحثوا عن شجرة لم تتساقط أوراقها ليتأكّدوا من أن فصلهم المفضّل لم يحلّ لأنهم لن يجدوا شجرة في بيروت.

حملنا عدّة الاستكشاف والبحث ووضعنا نظاراتنا وتسلّحنا بعدسات مكبّرة بحثاً عن أوراق الأشجار البنيّة والذهبية التي طلبت المعلّمة من ابنتي أن تتعرّف عليها وتستمع إلى موسيقاها تحت قدميْها الصغيرتين. وكانت عبثيّةً رحلةُ البحث عن شجرة في بيروت. وقد عدنا من حيث انطلقنا، عدنا إلى مدرسة ابنتي حيث أعدنا اكتشاف دور الأشجار في محيطها البيئي. وربما كانت تلك المدرسة من المدارسة القليلة المحظوظة في بيروت حيث ما زالت بعض شجرات «عريقة» صامدةً تصارع الأطماع والنيّات وأيضاً موضة الهدم والبناء واقتلاع الأخضر قبل اليابس. وقد أصبحت مضحكةً مبكيةً أغاني التلاميذ الصّغار عن «الأوراق الصّفر» و«الهواء العذب كالحبّ» و«لطافة الخريف». فأين الخريف في بيروت؟

زرع الحجارة وشكّ الأبراج، التي طلب مني شابٌّ يعمل حارساً في موقف سيارات أن أفخر بها وأعلن لها ولائي، واقتلاع ما بقي من أشجار في المدينة تساهم في قتل الخريف. لكن مَن نحاكم؟ أو كيف نحاكم المشاركين في قتل موسمنا المفضّل؟

والمحاسبة هذه كلمة لا نتفّق على معناها هنا في لبنان، وإذا اتفقنا على الاعتراف بوجودها بَعْثَرَت اتفاقنا طوائف المحاسَبين وانتماءاتهم السياسية. مَن يحاسب مَن في بلد يحكمه نظامٌ طائفيّ متخلّف خصوصاً إذا كانت الجريمة بيئية؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077