تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

اللقاء الأوّل

ودّعتُه. كان يجب أن أنهيَ اللقاء في شكل ما. هو صاحب البيت، ولن يودّعني قبل أن أنهض من مكاني وأقول إنني سأرحل. لا أظنّه كان متضايقاً من وجودي، بل شجّعني ما بدا على وجهه وحركات جسمه أنه انسجام على المكوث كلّ هذا الوقت بجانبه. ودّعته. تركتُه مصدوماً. ولعلّه تساءل بينه من بين نفسه: من أين أتت هذه السيدة؟ لعلّه للحظة ظنّ وجودي متخيّلاً. اقتحمتُ بيت أهله المهجور وجلست بجانبه أثرثر وأطرح عليه أسئلة أقلّ ما يُقال عنها إنها صعبة أو وجودية. ثم انسحبتُ. أذكر أنني قبل أن أنسحب رميتُه بوعد. بماذا وعدته؟ وعدته بقصّة. يحتاج الآن إلى قصّة لأنه حائر بين البقاء في هذا البلد العجيب أو العودة إلى أميركا. القصة تنفعه الآن. أليس كذلك؟

قبل أن أغادر قلت له: أراك غداً في الخامسة، ما رأيك؟
لم يتردّد في الإجابة، ولم يسبق كلامه صمتٌ أو ضياعٌ يوحي أنّه حائر أو متضايق أو مصدوم. فأجابني بسؤاله:
أوكي، أين؟
أتصل بك غداً ونتفق عندها. يجب أن أكشف لك أسراري، أريد أن أرتاح وأورّطك.

تركتُه ولم أقل له ما رغبتُ في قوله: تخيّل أنك في رأسي مرتبط بمنطقة كاملة. لا أستطيع أن أعيش في المكان إذا أنتَ تركته لأنك أنتَ المكان. نعم المكان هو أنت، وأنا صورته، أنا تفصيل فيه، أنا عين من العيون التي تبنيه وتهدمه في لحظة واحدة، وتُظهره وتُخفيه.

عدتُ وحدي من الجنوب. وفي طريق العودة وعدت نفسي بقصّتنا الجديدة. لست شريرة وأهداف خططي شريفة، وهي أن أتحكّم بحياتي، وأن أقرّر أنا معنى الوقت الذي يمرّ ومغزاه.
يكفي ما قلتُه له بالنسبة إلى لقاء أوّل. يكفي.

في السيارة، في طريق عودتي من بيت أهله الجنوبي، أشرب دموعي. كانت أمي تتنبّأ بجنوني. أهكذا يبدأ الجنون؟ هل الجنون هو أن أحبّ رجلاً لا أعرفه، أن أحبّ فكرته، فكرة وجوده التي أظنّها فكرتي لأنني أنا من ابتكرها ورسمها وبناها. لا أعرف إذا كان في الحقيقة يشبه الرجل الذي أريده أن يكونه، رجل يلتقي فيه رجل آخر ميْت وحلم قديم. أحببت قميصه الأبيض قبل أن أراه، ورائحته كيف تنبّأت بها؟ في السيارة أصارح نفسي. لا أكذب على البنايات وإسفلت الشوارع وموسيقى ألبوماتي المخفية في صندوق أسود. أقترب من بيتي، سأغيب الآن في عتمة وحدة أحتفل بها كلّ ليلة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077