تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

مشهد مركّب

توقّفتُ عن تخيّل المشاهد المقبلة. قلت لنفسي «عيشي المشهد». أنا وهو في لقطة واحدة. ما الذي يمكن أن أقوله؟ ما الذي يمكن ألا أقوله؟ لقائي به الآن فرصة نجاتي. ركّزت جنوني كلّه على حياكة مشهد يجمعنا، وفي ذهني أن المشهد يجرّ مشهداً غيره. ثم أنسج من المشاهد كلّّها قصة هي قصّتنا. أصبحتُ مثل جارة أمي التي تتخيّل أن طبيبها مغرم بها، وتحكي لصديقاتها عن نظراته إليها وكلامه وتصرّفاته. خفت من أن أفضح نفسي. لن أخبره كل شيء عن حياتي دفعةً واحدة. أهرب من هستيريا البوح التي تنتابني. يكفي ما فعلته إلى الآن. جلست بجانبه على عتبة الدار، الهواء يصافح وجهَيْنا، هواء لطيف لطافة اللحظات التي تجمعنا.

- لا أصدّق أنك لا تتذكّرني.
- أتذكّرك، لكن ليس في مشهد معيّن أو حادثة معيّنة.
- أذكر أول الليل ذاك، يوم بقينا وحدنا في الصالون الخارجي منذ نحو 22 عاماً. كنت تضع سمّاعتين على أذنيك، وأنا أدّعي أنني مشغولة بقراءة مجلّة مصوّرة. أذكر أنني كنت أرتدي «تي شيرت» أخضر.
لم أقلْ له إنني أحسست بعاطفة غريبة هي مزيج من الدفء والخوف والحماسة. لم أحسّ مرة أخرى بما أحسسته تلك الليلة. كأنني امتلكت العالم وضعت فيه في آن واحد. ذلك أجمل ما في الطفولة، عفوية المشاعر وصدقها.
- يبدو أنك كبرت في سنّ مبكرة.
- لا، لا أصف شعوراً ناضجاً بل هو توق إلى النضج إلا أنه طفولي.
- يعني أنك الآن في الثانية والثلاثين، ما زلت صغيرة.
- صغيرة؟ لم أكن يوماً صغيرة. ابني كريم أصبح في الثامنة.
- برافو، جريئة. أنا لم أجرؤ يوماً على التفكير في أن يكون لي ابن. لم أناقش الأمر مع نفسي. هو موضوع محسوم بالنسبة إليّ.
تتسلّل بين كلماته أنغام موسيقى إسبانية. مَن اختار لنا موسيقانا؟ ضحكنا. تذكرت أنني تعلّمت قيادة السيارة هنا، في الساحة المواجهة للدار.
- موسيقى إسبانية في ساحة قريتنا، مَن قال إن الأشياء لم تتغيّر؟
ما أجمل ابتسامته. لا أريد أن أنهض من مكاني، وهو أيضاً يبدو مستعداً للبقاء هنا.   
- لم تسألني مَن تزوجتُ؟
- لا بد أنك أحببته، كأنك تعرفين ما تريدين.
- ظننتُني أحببته. على كل، انفصلنا. أنا الآن امرأة مطلّقة.
- كلنا مطلّقون.
- وأنت؟ هل تزوّجت وانفصلت.
- لم أتزوّج، أنتظر أن أصبح في السبعين. أنا... كيف جررتني إلى هنا؟ أنا مثلما يقولون "لا معلّق ولا مطلّق". حين قررت أن أتعلّق بها أفلتتني.
سمعتُ أخيراً ما أردت أن أسمعه منه. نهضت. فنهض.
- يجب أن أذهب. مرّ الوقت سريعاً. آسفة اخترقتُ وحدتك.
- هل أراكِ في بيروت؟
- طبعاً، ستراني. ولا تعطني رقم هاتف أو عنواناً. أعرف كيف أجدك، صدّقني.  

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077