تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أدوات الذاكرة

سمح لي مهرجان الفيلم العربي «أيام بيروت» السينمائية بمشاهدة «أسئلة» المخرج الفلسطيني (البلجيكي) ميشال خليفي في فيلمه الأخير «زنديق». أصرّ المخرج خلال لقائه بالجمهور بعد انتهاء عرض الفيلم أنّه عرض أسئلة وأن لا أجوبة لديه عن أسئلته. نبْشُ الأسئلة ودفعُها إلى الواجهة هما وظيفتا أي عمل إبداعي راقٍ. وقد وزّع علينا فيلم خليفي هذا أسئلة هي هداياه إلينا، وقد حملناها معنا إلى خارج الصالة. وهي هدايا ثقيلة موجعة تعيدنا من غيبوبة أيامنا لتضعنا وجهاً لوجه أمام الواقع المشرذم.

يعرض الفيلم يوماً كاملاً في حياة سينمائيٍّ فلسطيني خلال زيارته مدينته الناصرة بعد عودته من البلد الأوروبي الذي يعيش فيه. لا يجد المخرج بطل الفيلم مكانه في مدينته الأولى، ويمضي ليلاً طويلاً باحثاً عن غرفة في فندق بعدما أصبحت عودته إلى بيت أخته مستحيلة. فقد قَتَل ابن أخيه شاباً من عائلة أخرى، لذا أصبحت حياته هو مهدّدة بانتقام عائلة القتيل. وتظهر العلاقة بالمكان في غاية التعقيد، فلم يقدّم المكانُ الأول الدفء للمخرج أو الإحساس بأنّه في «مكانه»، بل هو «خارج المكان» في مكانه الأول، حيث هو أيضاً منفيٌّ ومطرود ومطارد.

هكذا، يحرّك خليفي الثوابت والكليشيهات، يهزّها مع اهتزاز الصور في الفيلم، فثمة مشاهد التقطها بكاميرا هواة، وثمة مشاهد أخرى غير واضحة. هزّ خليفي «الحقائق»، هزّها بالنقد الذاتي غير المتوقع في بلد يرزح تحت وطأة الكولونيالية. ولا بد أن يطرق ذهن المشاهد هذا السؤال: كيف استطاع ميشال خليفي أن يطرح نقداً ذاتياً في ظلّ واقع استعماري قاسٍ؟

وفي ليل المخرج المشرّد الطويل، تضيع الصور بين الحقيقة والحلم ليتساءل المشاهد: هل هذه الصور جزء من الماضي أم من الوهم؟ هل الحاضر واقعي أم مجرّد رؤيا كابوسية؟

وخلال ليل التشرّد الطويل، يدخل المخرج بيت أهله القديم المهجور في الناصرة حيث يتفقّد رموز «هوية» الفلسطيني الفاقد مكانه الأول: مفتاح البيت والبئر في ساحة الدار والصور القديمة بالأبيض والأسود. ثم نراه فجأة يحرق هذه الرموز، يحرق صُوَر والديه ابنِيْ النكبة، ويرمي مفتاح البيت. يتخلّص من الأدلّة القديمة (التي تجاوزها الزمن) على أن المكان كان للفلسطينيين. وخليفي في المقابل يطالب بتنظيم أدوات الذاكرة، وبتحديثها كي لا تفقد قيمتها وكي لا يتم تجاوزها. وقد كان بطل فيلمه (المخرج أيضاً لكن الفيلم ليس سيرة ذاتية حسب خليفي) قبل وصوله إلى الناصرة يصوّر بكاميرا المخرج المحترف شهادات نساء ورجال عاشوا أحداث النكبة.

ويشدّد خليفي أيضاً على انتهاء زمن الأساطير. لقد جفّت الأساطير مثلما جفّت البئر في دار أهل بطله المخرج. ومن هذه البئر نفسها تصاعد صوت الشاعر الراحل محمود درويش  بدلاً من صدى صوت المخرج «البطل» وهو يقول: أنا من هنا وهنا أنا، في مشهد مؤثر وساخر تلك السخرية الموجعة. كأن خليفي يقول إن القصائد بدورها لم تنفع، مثلما لم تنفع الصور الفوتوغرافية والمفاتيح. هو يؤمن بالصورة الحديثة، بالصورة السينمائية، فيجيب الطفل الهارب من عصابة الاتجار بالأطفال: «نحن لا نصنع حروباً، نحن نصنع أفلاماً». أما أمه التي يتخيّل وجودها في البيت القديم، فيسألها: لماذا بقيتم (بعد ال48)؟ لماذا لم ترحلوا؟ وهو السؤال «المعاكس» لسؤال كاد أن يوجّهه محمود درويش لوالده حين سأله: لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077