تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

طعم القهوة

لا أقرأ شيئاً. لا أستطيع أن أختار الكتب التي أريد قراءتها. ولا أختار الوقت المناسب لقراءتها. تجاوزتني مسألة الاختيار. مَن أنا ليتسنّى لي أن أختار أو أقرأ؟ أنا عليّ أن ألهث وأن أكتفي بالركض واللهاث. كل ما أذكره من يومي هو طعم القهوة.

 البارحة حلمتُ بأنني قتلتُ صديق عتمتي أيام الطفولة. أنا فعلاً أكرهه الآن بالرغم من أنني أضعته منذ أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً. حلمتُ بأنني تخلّصتُ منه، وكان «علي» برفقتي. ثم رأيتُه، رأيت ضحية حلمي. كنت في السيارة، أنتظر أن يخضرّ لون إشارة السير. كان في سيارة حمراء، بدا نظيفاً وسيماً، غابت رائحته القذرة عن المشهد. كلّما استعدت وجهه قتلتني الرائحة، رائحة الندم والمعارك والكهرباء المقطوعة. كان يجب أن أقتله. كان يجب أن أقتلها.

لم أكتب شيئاً عن تلك المرحلة. حين أعود إليها عبر ذاكرتي أحسّ بأنني متّ وعدت من الموت. ومنذ أشهر قليلة متّ ميتة أخرى في بطن مستشفى، ثم فجأة عدت إلى الحياة. كأنني نسيت لون بطن المستشفى الرمادي. نسيت كل شيء إلا الكلمات، تعود إليّ بأشكالها ومعانيها. هذه الأيام يرافقني شيطان الاكتئاب. أعرفه، عرفه أفراد من عائلتي وصديقة رجته أن يخنقها. كيف أقاوم؟ لا أعرف لمَ أصبحت أخطاء الماضي كلّها أشد وضوحاً.

لا أعرف إذا كان لوجهها أية علاقة بكآبتي. ولمَ لا أنسى قبحها واللؤم الذي يقطر من خدّيها. أحلم بأنني أتخلّص منها. لكنها تعود إليّ بعد أن أتخلّص منها. كذبت عليّ، وأخذته مني ثم عاشت حياتي. احتلّت البيت الذي اخترته أنا وسرقت الاسم الثاني الذي كان سيصبح اسمي. أخذت اسمي أيضاً.

حاولت أن أقنع علي بمساعدتي على التخلّص منها. يسمعني ولا يفهم عليّ. يقول إنه يريد أن يفهم البلد أولاً. لن يفهم شيئاً إذا لم يمش وحده. كم مرة قال لي هذا الكلام؟ وكم مرة خذلته. يقول إن العتمة تمتدّ إلى صباح يوم جديد. ويقهرني حين يسأل عن الشمس. ماذا جرى لها؟

أستطيع أن أكره مظهرها. يحقّ لي ذلك، يحقّ لي أن أقرف من أسنانها وضحكتها الميتة كلّما تذكرتها. يقول علي إنه يحبّني لكنه لا يساعدني. يقول إنني لا أفارقه وأنه يحملني معه إلى أمكنته كلّها، وأنه يحاول طردي أحياناً من غرفته، لكنني لا أتحرّك، أقف قبالته ولا أغيب. ويقول إنني أترك فيه تأثيراً لا يفهمه، وإن ما يحسّه تجاهي لم يحسّ به من قبل. يقول إنني أسكنه وإن فيّ صفات لم يمتلكها. ثم يلوم أمه لأنها لم تنجبه عبقرياً ولم ترمه في الشارع. ينقصه ذكاء الشارع لينتصر على حروبه الداخلية. حروب في الخارج وحروب في الداخل. أشخاص متعددون يتعاركون داخله ويتنقّلون بين الماضي والحاضر، بين البقاء والرحيل. وهو يعيش فيّ.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077