تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

تاكسي

نزلتْ الآن من التاكسي. في التاكسي تبحث عن معنى لحياتها. ليس الأمرُ جديداً، هي في حالة بحث دائمة عن شيء ما تجهله. تقف على الرصيف امرأةٌ مع طفلها، ابتسمت لها وهنّأت نفسها على جرأتها. أهي جرأة أم شكل من أشكال الغياب؟ كيف استطاعت أن تفارق ابنتها؟ هربت من طفلتها، تركتها مع والدها. ولم تبك، بل أحسّت بأنها خفيفة وحرّة وأنها أصبحت امرأة أخرى. «هذا الوضع موقت»، قالت لنفسها. مضى على ذلك اليوم أسبوع.

نزلت من التاكسي لتمشي وراءه. تعانق حقيبتها. تهرول. تعلّمت في الأيام القليلة الماضية أنه يمشي سريعاً. تعلّمت أيضاً أنها تفقد شيئاً فشيئاً السيطرة على نفسها. ولا تعرف ما الذي يحرّكها أو مَن الذي يتحكّم بها.

ليست سهلة مطاردة شخص يعشق المشي. يخطو كأنه ينتقم من الأرض. يمشي رافعاً رأسه إلى فوق، متأملاً البنايات الجديدة ثم فجأة يخفض رأسه ليتأمل الحُفَر التي ستصبح بنايات شاهقة. لا يتعب. هي تعبت من المشي. تعانق حقيبتها لتلطّف إحساساً غريباً بالخوف. ما الذي تفعله؟   

ما كان ممكناً أن تتحرّك في يوم كهذا من دون حقيبة. تعانقها مجدداً، وتخبّئ شعرها الأسود تحت قبعتها الرياضية. لا تركض. عيناها تركضان. عيناها سريعتان ولا تمكن السيطرة عليهما.  

اسمها ديما منذ 37 عاماً. تركت عملها منذ أسبوع بالضبط. تركت ابنتها مع أبيها، وقررت أن تنصت إلى نفسها. أمضت وحدها في البيت ثلاثة أيام كاملة. «ما أجمل وحدتي»، قالت. ثم عادت إلى الصمت. اسمها ديما وهي تبحث عن علي منذ عرفت بعودته. تتبعه الآن. وصل إلى البناية حيث استأجر شقة أحد أصدقائه المشرّدين في العالم. لم يبق له في لبنان أصدقاء.

لم تتبعه إلى فوق. ولم تعد إلى بيتها. اليوم السبت ولا بد أنه سيذهب إلى قريته في الجنوب. اتصلت بسائق التاكسي. بعد نصف ساعة تنطلق مع السائق إلى القرية الجنوبية. تتساءل لمَ ما فكرت من قبل في القيام برحلة كهذه. ليست واثقة بقراراتها وتصرّفاتها، لكنها ارتاحت من الدوّامة، من ذلك الشعور بأن عليها كل لحظة أن تقوم بواجباتها المختلفة. يمكن أن تدّعي الآن أنها حرّة.

تعيد في السيارة رسم ما بقي في رأسها من مشاهد عاشتها مع علي في القرية وأثّرت فيها.  مَن قال إنها عادت لا تعرف علي؟ تعرفه جيداً. أحبّته وكانت مستعدة لترك عالمها لأجله. لكنه لم يطلب منها أي شيء. ولعلّه لم ينتبه إلى خجلها منه ورغبتها فيه. كان صغيراً في السن، وهي كانت الصغيرة. نضجت لأجله وأحبّت الشِعر لأنه أحبّه. وكرهت أميركا لأنها أخذته منها.

عرفته ما إن رأته في الشارع. عرفت عينيه القاسيتين وكتفَيْه الخجولتَيْن. طاردته في الشوارع خلال يومين. وما رآها. هي واثقة بأنه لم يرَها ولن يعرفها إذا رآها. لم يتغيّر مظهره، هي تغيّرت. 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077